ديوان : أوبرا عايدة

  أوبرا عايدة

مصعب الرمادي

أوبرا عايدة 

____________________________

الكتاب:  أوبرا عايدة 

الكاتب : مصعب الرمادي

تاريخ الطبع : نوفمبر 2025م

حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف 

__________________________

*إلى الممثلة المصرية المتألقة / عايدة رياض 

__________________________________  

مع فرقة الموسيقار الأيطالي فيردي
I
عادت فرقة الموسيقار العالمي الأيطالي فيردي إلى القضارف، 

كأن الزمن اختلط بظلّ المسرح، وكأن نابولي القديمة نامت في حضن التاكا وأيقظت الغناء. كانت الليلة تشبه ضوءًا يتيمًا على كتف الذاكرة،
تتقدّم فيها عايدة - الإيطالية هذه المرّة - بخطى أسيرة نوبية تبحث عن اسمها بين الحاضرين ،   وفي يدها منديل من فيلم " أحلام هند وكاميليا" ،
مرقّطٌ برائحة الشقاء المصري الذي أحببناه،وفي قلبها ارتعاشة البنات اللواتي حلمْنَ بالكهرباء والحرية، على أرصفة بورتسودان وكسلا وسواكن.

II
على الخشبة وقف راداميس، لا محاربًا مصريًا هذه المرّة،
بل طالبًا في كلية الزراعة، يحمل طبشورةً بدل السيف.
قال: " الحبُّ يا عايدة… ليس انتصارًا،
هو خسارةٌ تُربّي الموسيقى في الروح" .
فصفّت البنات في الصف الأول كعصافير النيل الأزرق،
وارتجف المسرح حين عبرت نساء المافيا —
العراقية والمغربية والليبية والسودانية والتركية —
كأنهنّ حِكَمٌ خرجت من كتاب طقسيٍّ قديم،
ليسرقن من فيردي نَفَسه الأخير.

III
حكاية الموسيقى في شرق السودان تبدأ دائمًا بهمسة،
بمزمار منسوبٍ إلى امرأة هدندوية
علّمت الريح أن تصفر باسمها.
يقولون إن جدّها كانت تروي للأطفال
أنّ الطبول لا تُقرَع للفرح وحده،
بل تُقرَع حين يهرب العاشق ويعود.
وفي تلك الليلة، على المسرح،
سمع فيردي الطبل كأنه قادم من قرية " أم شديدة"
فأعاد كتابة اللحن الرابع من أوبراه بصوتٍ مرتجف.

IV
تقدّمت ناتاليا الأوكرانية، سيدة الجليد وكسور الصوت،
وقالت لعايدة: "تعالي نتقاسم الثلج" .
لكن عايدة النوبية ردّت:

" أنا إبنَّة النار التي تركها كوش في رمادها، 

فتداخل الثلج بالنار،
والقِدر بالوتر،
والتاريخ بالهاربة من أسوان إلى نابولي.  

أما راداميس فقد وقف يراقب الانصهار،
كأن العالم كله قُدّ من عودٍ واحد.

V
في شرق السودان،
يحكي الرواة عن مغنٍّ ضائعٍ اسمه "سَحّان البلالي" ،
كان يوقّع أغانيه على فوق الربوة  لا على الورق. 

فكان إذا مرّت به امرأةٌ غريبة،
يُغيّر اللحن ليطابق خطواتها.
وفي تلك الليلة، حين عبرت عايدة،
رأى سحّان في عينيها نهرين:
نهرٌ يجيء من ليبيا، ونهرٌ يجيء من إريتريا،
فكتب أغنيةً لم يستطع أحد حفظها.

VI
دخلت لورا السويسرية حاملةً خزنةً صغيرة،
قالت إنها تضمّ "نغمًا مسروقًا".
فتحته عازفة الكمان من فرقة فيردي،
فخرجت منه موسيقى تشبه ضوء القطن.
ضحكت لمياء الليبية وقالت:
"هذه ليست موسيقى… هذه جثّةٌ منسية لفرح".
أما سامية البجاوية فاقتربت بيدٍ من صوان،
وقالت: "كل نغمةٍ تُولد من حجر".
فارتجفت الخشبة وتشقّقت.

VII
في مشهد يشبه سينما " شريف عرفه"،
هبطت "عايدة رياض"- أو صورتها -من أعلى المسرح،
كأنها هند أو كاميليا تبحثان عن ساعة إضافية من الحرية.
صفّق الطلاب،
وتذكّروا أن الفيلم كان درسًا في العوز…
وفي الرغبة الهاربة من القهر.
قالت الصورة: "كل حبّ بلا عملٍ شاق… خرافة".
فنكس راداميس رأسه،
وتقدّمت عايدة لتصافح ظلّها المصري.

VIII
تحكي أسطورة من القضارف أن صوت "الصفّارة"
أول ما جاء من البحر الأحمر، يحمله تاجر يهودي فرّ من عدن.
وحين وصلت الصفارة إلى يد طفلٍ هدندوي، تحوّلت إلى لحنٍ تتمايل له الجبال.
سمعه فيردي في نومه، وظنّ أن الجنّ يعزفون قرب سريره.
فكتب "كورال الأسرى" وهو نصفُ نائمٍ،
ونصفُ مسحور.

IX
زليخة المغربية دخلت كأنها عاصفة،
وفي يدها قنينة أعشاب،
قالت إنها تُعيد للميت صوته إن أراد الغناء.
جرّبتها على وترٍ مكسور،
فنهض الصوت كأنه طفلٌ من الأطلس.
فقالت عايدة: "أعيدي صوت أبي،
صوت الملك الأسير”،
لكن زليخة تبسّمت بحزن:
“لا تُعيد الأعشابُ من ماتَ ظلمًا”.

X
في رحاب المسرح الجامعي،
وقف شيخٌ من القضارف يروي:
أن كل موسيقى خرجت من شرق السودان
كانت تُكتب أولاً في حلم امرأة.
امرأةٌ مجهولة الاسم،
لا تظهر إلا في ليالي الشتاء،
تغنّي على بئرٍ مهجورة.
سمعها فيردي صدفةً،
فاشتعلت الأوبرا في رأسه كالنار.

XI
أما عصابة المافيا،
فقد جلست في الصف الخلفي،
تنتظر لحظة خطف اللحن الأخير.
سهيبة العراقية كتبت على دفتر صغير:
"كل عشيرةٍ لها أغنيتها،
وكل أغنيةٍ لها قاتلها " .
عاتبتها التركية ليلى وقالت:
“نحن لا نقتل النغم… نحرّره فقط" .
فابتسمت عايدة الإيطالية: " بل نأسرهُ كالحب" .

XII
تحكي المدن أن راداميس
لم يخن مصر فقط…
خـان إيقاعه الداخلي حين أحبّ أسيرة.
وقف على الخشبة،
وقال للطلاب:
"الحربُ تُنشئ قافية،
لكن السلامَ يحتاج وزنًا أعمق" .
صمتت القضارف لحظة،
كأنها تفكّر في مصيرها.

XIII
عندما صعدت مزون العُمانية من مدينة " عِز" ،
تغيّر هواء المسرح.
كانت تحمل ياقوتًا أزرق،
إذا نظرت إليه امرأةٌ حائرة
تذكّرت وجهها الأول.
نظرت إليه عايدة…
فرأت طفلةً تلعب في كرمةٍ نوبية،
وتحمل طبلة صغيرة.
فبكت دون سبب.

XIV
حكاية أخرى من شرق السودان تقول:
أن كل مغنٍّ قبل أن يموت
يُسلّم صوته لشجرة.
فتنبت الشجرة موسيقى.
وفي السهول قرب القاش
تنمو أشجار تسمعك،
وتردّ عليك إن غنيت لها.
جربّتها فرقة فيردي،
فغنّت الشجرة بالإيطالية!

XV
دخلت العصابة كلّها الخشبة فجأة،
وقالت لعايدة:
" نحن نظيرُكِ الآخر…
نحن نساءٌ لم يجدن وطنًا إلا في الحكاية" .
أحاطت بها التركية، والمغربية، والسودانية، والأوكرانية…
وقالت سهيبة:
"إن أردتِ الخروج من التاريخ،
فاتبعي خطواتنا" .
لكن عايدة اختارت البقاء مع راداميس.

XVI
وقف راداميس على أطراف الخشبة،
وقال كلامًا لم يُترجَم بعد:
" أيتها النوبية…
لو كان الحبُّ وطنًا، لكانت القضارف حدوده" .
ترددت الجملة في المايكروفونات،
وفي جدران الداخلية،
وفي سكن البنات،
حتى كاد الليل أن يصفّق.
لكن النهاية بقيت مفتوحة.

XVII
في المقطع الأخير،
انطفأت الأنوار فجأة،
وبقيت خشبة المسرح تلمع كجرح.
تقدّم ظلّ امرأة — ربما كانت عايدة رياض —
وقالت:
"كل فنٍّ يولد من العوز…
كل لحنٍ يولد من تعب امرأة"
ثم اختفى الظل،
وبقيت القضارف تسأل نفسها:
هل كانت الليلة أوبرا؟ أم حلمًا؟ أم نبوءةً لم تكتمل؟!.

__

نوفمبر 2025م

دار الأوبرا السلطانية -  مسقط

تعليقات

المشاركات الشائعة