ديوان : أمستردام الجديدة

مصعب الرمادي
أمستردام الجديدة
______
الكتاب : أمستردام الجديدة
الكاتب
: مصعب الرمادي
تاريخ
الطبع : يونيو 2018م
حقوق
الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
________________________________
* إلى : زهران ممداني
عمدة نيويورك الجديد
_____________
عمادة نيويورك
I
في نيويورك، يا زهران،
الليلُ لا يُطفئ مصابيحَه، بل يفتحُ فخذَه على النيون،
تتهجّدُ الأبراجُ كما لو كانت مآذنَ من زجاجٍ،
يصلّي فيها عُشّاقُ الصُدفة وعمّالُ النظافة ومهاجرو القضارف،
الذين جاؤوا يحملون معهم رائحةَ الطينِ وقراءةَ الغيم،
ليزرعوا في قلب مانهاتن سنبلةً من لهجةٍ حارةٍ لا تنام.
II
ها هي أمستردام الجديدة،
المدينةُ التي وُلدت من رغبةٍ لا تنتهي في الماء،
تشربُ من نهر هدسون كما تشربُ القضارفُ من سيولها العابثة،
كأنما المدينتان أختان في الرذيلة والمطر.
في حديقتِها العامة،
ينامُ المتشردُ على وسادةِ الرخامِ كأنه وليٌّ في ضريحٍ حديث.
III
في المساءِ، تمشي الشهوةُ على الكعب العالي،
تدقُّ الأرصفةَ كطبولِ الأطلنطي،
توقظُ تمثالَ الحريةِ من غفوتِه البحرية،
فتنهضُ النساءُ من صُلبِ الضوء،
يتصبّبنَ عطوراً كأنهنّ خطيئةٌ من ذهبٍ سائغ،
ويغسلُ المطرُ خطاياهنّ فوق سلالم برودواي الطويلة.
IV
يا زهران،
البلديةُ ليست مكاتبَ إسمنتٍ فقط،
بل جسدٌ عامٌّ للمدينة،
أوردةٌ من شوارع، رئةٌ من حديقة،
وثدٍ من ملهى ليليٍّ يرضعُ منه الشاعرُ ما تبقّى من معنى.
فيه تمتزجُ العبوديةُ القديمةُ بترفِ الحريةِ الحديثة،
كما يمتزجُ الحبرُ بدمِ السُّود في أرشيف المحاكم.
V
في القضارف، يا صديقي،
تتسعُ السماءُ على مهلٍ فوق بيوتٍ من قشٍّ وحلم،
وفي نيويورك تضيقُ السماءُ بين طابقٍ وطابق،
لكنّ المطرَ واحدٌ، والماءَ الذي يسيلُ من أعينِ التائهين واحد،
فكأنّ القضارفَ ظلُّ نيويورك على جدارِ الأطلسي،
وكأنّ نيويورك ذاكرةُ القضارف بعد قرونٍ من الحلم.
VI
في مترو الأنفاق،
أسمعُ السلالاتِ كلّها تتنفسُ،
الأفارقةُ من دلتا النيجر، اللاتينيون من قرطبة القديمة،
الآسيويون من خُطبة بوذا، والعربُ من غبار الخرطوم.
كلُّهم يختلطون في نَفَسٍ واحدٍ
يُدفئُ أنفاقَ المدينةِ التي تبتلعهم كرحمٍ لا يشبع.
VII
في ناطحاتِ السحابِ،
ينامُ الشعراءُ في الطوابق العليا،
ينزلون صباحاً إلى الأسفل كملائكةٍ مكسورة،
يتوضؤون بالبنزينِ ويشربون القهوةَ السوداءَ كجنازاتهم الصغيرة.
هناك تشتعلُ اللغةُ،
تتحولُ إلى جمرٍ، إلى لهاثٍ، إلى لوحةٍ تُعلّق في تايمز سكوير.
VIII
زهران ممداني ، عمدةَ المدينة التي تحفرُ لنفسِها قبراً من ضوء،
في كلّ شارعٍ تمثالٌ لشهيدٍ مجهولٍ من جيل المهاجرين،
وفي كلّ إشارةٍ لامرأةٍ عابرةٍ مِزاجُ قارةٍ بأكملها.
هنا القوةُ تتعرّى كلَّ مساءٍ على الشاشة،
وهنا السلطةُ تبتسمُ في وجوه العاهرات،
كأنّ أمريكا تعبدُ جسدَها كما يعبدُ الصوفيُّ خياله.
IX
في القضارف،
كانت النساءُ يرقصنَ للطينِ وللحبِّ في مواسم الذرة،
وفي نيويورك يرقصنَ للعزلةِ أمام المرآةِ،
لكلٍّ طقسهُ ومعبدهُ وسريرهُ الفارغ.
غير أن الموسيقى واحدة:
قرعُ الطبول في الأولى، وارتعاشُ القلبِ الإلكتروني في الثانية.
X
في الليل، حين ينامُ التمثالُ الكبيرُ في الميناء،
أخرجُ إلى الحديقة العامة،
ألمسُ أعناقَ البجعِ وأشمُّ فساتينَ المطر،
أرى في الأفقِ ملامحَ القضارفَ البعيدة،
تطلُّ من بين أبراجِ مانهاتن كحلمٍ أخضرَ في علبةٍ من حديد،
وأعرفُ أن المدنَ لا تموت، بل تتحوّل إلى ذاكرةٍ ساخنةٍ في جسدِ شاعر.
XI
الليلُ في نيويورك ليس ليلاً،
إنه حانةٌ من صراخِ الكواكب،
يتنفسُ فيها الضجيجُ كما تتنفسُ الحيتانُ في الأعماق.
من بين الغاباتِ المعدنية،
تطلُّ وجوهُ القضارف، حنطيّةً ومبتسمة،
تبيعُ البنَّ الحبشيَّ للغريبِ الذي لا يفرّق بين الدعاء والقبلات.
XII
أمستردام الجديدة،
هي الممرّ بين الحلمِ والإمبراطورية،
بين الطينِ والمعدن، بين القصيدةِ والرصاصة.
تسافرُ فيها الأرواحُ على درّاجاتٍ هوائيةٍ من خيالٍ،
وتصعدُ إلى السحبِ من سلّمٍ من لهاثٍ وجنسٍ وندم،
تسافرُ مثلي – ومثلك يا زهران – بلا جوازٍ سوى اللغة.
XIII
وفي آخر المهرجان،
حين أغلقتَ آخرَ إشارةٍ مرورٍ بيدكَ اليسرى،
رأيتُ تمثالَ الحريةِ يبتسمُ لكَ من بعيد،
ورأيتُ القضارفَ تنهضُ من بين الحقولِ وتقول:
ها هو شاعرُها عادَ إليها بعينٍ غربيةٍ وروحٍ شرقيةٍ،
ليكتبَ على جدارِ نيويورك – بخطٍّ من الطمي –
أن الإنسانَ هو المدينةُ، لا الأبراجُ،
وأن الحفارَ لا يحفرُ للميت، بل للحلم.
__
يتبع
_____
يناير 2018م
السفارة الأمريكية - الخرطوم

تعليقات
إرسال تعليق