ديوان : على طاولة تعربد بها الشهوة المترنحة و اللذة المبهمة في كبارية فولتير
على طاولةٍ تعربدُ بها الشهوة المُترنحة و اللَّذة المُبهمة في كبارية فولتير

مصعب الرمادي
على طاولةٍ تعربدُ بها الشهوة المترنحة و اللَّذة المُبهمة في كبارية فولتير
دراسة تحليلية لبيان المدرسة الدادئية في الفن التشكيلي الحديث
________________
الكتاب : على طاولة تعربد بها الشهوة المترنحة و اللذة المبهمة في كبارية فولتير
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : أكتوبر 2025م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
_______________________
I
كانت الطاولةُ تعرقُ بالشهوةِ، والكؤوسُ تتبادلُ أسماءَ اللوحاتِ كأنّها رسائلُ حبٍّ مُرسلةٍ من زمنٍ بعيدٍ. هنا، في كاباريةِ فولتير، تُكتبُ قصيدةُ النثرِ السودانيةُ على قفا بيانِ الدادائيينَ، والحبرُ ليس مداداً بل عَرقُ عاشقةٍ متأخّرةٍ في الطوافِ، وكلّ حرفٍ يخرجُ من فمِها كمزمورٍ جديدٍ للحداثةِ، والمدينةُ تضحكُ وتبصقُ ثم تعودُ تهمسُ بالأسماءِ كما لو أنّ الكلماتَ تعودُ لتقبّلَ حوافِ اللوحةِ قبل أن تضعَ فيها جسدها.
II
في زاويةٍ يغنّي تريستان تزارا لسيدةٍ تُدعى تماضرُ فتقولُ له: أنتم أعلنتم الحربَ على المنطقِ ونحن أعلنّا الحربَ على الميتافيزيقا، فتطفئُ سيجارتها في كأسِه فينهضُ البيانُ كحمارٍ إلهيٍّ مدهوشٍ بالقبل، وتبدأُ قصيدةُ النثر من تلك الحادثةِ الصغيرةِ التي تلوّنُ الصمتَ كما تلوّنُ المرأةُ فستانَها عند الفجر، والبيانُ هنا لا يطلبُ سوى أن يُلامَسَ قبل أن يُقرأَ، وأن يُقبلَ قبل أن يُعلَن.
III
البيانُ الأولُ للدادائيةِ كان يشبهُ صلاةً مقطوعةً: تسجدُ الفوضى وتقومُ الحريةُ، وفي الخرطومَ بعد قرنٍ يعادُ البيانُ بأصابعٍ دنقلاويةٍ ترتعشُ بين التهكّمِ والوجد، والفنّانُ المتمردُ يَعطي فرشاتَهُ بيدهِ كما يعطي عزاءً، ويقولُ بصوتٍ كصوتِ حفرةٍ: الفنُ لا معنى له إلا إذا قبّلَ الإلهَ في لحظةِ الشكّ، وتتصاعدُ الضحكاتُ كأنّها شمعاتٌ تحترقُ على طاولةِ السهرة.
IV
على الجدارِ صورةُ يسوعَ بثوبٍ من قماشٍ خامٍ وعلى الكرسي يجلسُ بودليرُ عارياً إلا من استعاراتِه، ويضحكُ فولتيرُ في زاويةٍ أخرى فيخبرُ عبّادَ المنطقِ بأنّ لذّةَ اللاجدوىِ أبلغُ من أيّ منصبٍ، هنا تُرى العبثيّةُ كطقسٍ مقدّسٍ تُعادُ فيهِ الطقوسُ بصيغةٍ جديدةٍ، والراهبةُ التي دخلت تفحّصُ النصّ تكتشفُ أنّ الصلاةَ قد تكونُ قبلةً إن أعادَ القارئُ ترتيبَ الحروفِ على صدرِه.
V
العاشقةُ السودانيةُ القادمةُ من حيّ القلعةِ تخلطُ الزخرفَ القرآنيَّ بخطِّ بول كليّ، تقولُ لتزارا: أنتم دادي لأنكم هاربونَ من الآباءِ ونحن دادي لأنّنا نبحثُ عن أمٍّ تحتَ حجابِها الحبر، ثمّ تقرأُ آيةً بصوتٍ رطبٍ فتذوبُ الحروفُ في كفّيها وتضحكُ حتى يذوبَ الضوءُ على عنقها كما يذوبُ الشمعُ في كأسٍ لا أحدَ يشربه.
VI
البيانُ الثانيُ للحداثةِ السودانيةِ كُتب في مقهى الخرطوم ثلاثة لا في زيورخ، فيهِ يلتقي عبد الله الطّيّب وسان جون بيرس حولَ طاولةٍ تفوحُ منها رائحةُ البنّ والتمرِ والعطرِ الحارّ، يتناقشان في جدوى المعنى بعد انقراضِ الوزنِ، ثمّ يعلّقُ أحدهما: قصيدةُ النثرِ هي زواجُ النصِّ من العُريّ دون عقدٍ شرعيٍّ، فنضحكُ ونقلعُ عن قوانينِ القِراءاتِ القديمةِ كما يخلعُ العاشقُ سترَهُ في غرفةٍ مظلمةٍ.
VII
مع انطفاءِ ساعةِ الدهرِ تُفتحُ نافذةٌ على اعترافٍ لا يشبهُ الاعترافاتِ المعروفةِ: اعترافاتٌ تُقاسُ بالقبلاتِ والهمساتِ، والقسُّ التائهُ يكتشفُ أنّ الاعترافَ ليسَ توبةً بل عرضٌ للذنب، فينحني على الطاولةِ ويقرأُ الآياتِ كما يقرأُ عاشقٌ فواتينَهُ، وتردّ الشهوةُ: نحنُ نصنعُ بياناتٍ من جسدِ الليلِ لأنّ الكلماتَ عاجزةٌ عن احتضانِ حرارةٍ كهذهِ.
VIII
في ركنٍ آخرَ يجلسُ شاعرٌ سودانيٌّ منفى يرسمُ خريطةَ النيلِ بدمِ نبيذٍ، يقولُ إنّ النهرَ فينا لا يجري إلى البحرِ بل إلى الجسدِ، تتدحرجُ الكلماتُ من لسانه كأسنانِ رمانٍ ناضجةٍ، ويضحكُ عليه فولتيرُ قائلاً: أنتم تصدّرونَ الفوضى إلينا ونحن نعيدُها إليكم على شكل فنٍّ؛ هنا يلتقي التاريخُ باللذّةِ وتستديرُ اللوحةُ لتقبّلَ عارِقَها قبل أن يُجرّدَها الزمنُ من ألوانِها.
IX
في الليلِة الحادية عشر من حرب الخرطوم المشؤمة تُلقى قذيفةٌ على مرسمٍ في العماراتِ تحمل احدى لوحاته توقيعَ الفنانة التشكيلية السودانية المتألقة " نائلة الطيب " فيسقطُ العملُ في نهرٍ جليديٍّ قربَ " زيورخ،" في تلك الليلة المرعبة تطمرُ تحت الركام ذكريات الشاعر و النبي و الفيلسوف فتنتزعها يدُ عاشقةٍ تقرؤها وتهمسُ: هذا البيانُ لم يُكتب بعد لكنه وُجد، فنبدأُ باستنطاقِ حبرِه كما يستنطقُ الطبيبُ نبضَ مريضٍ، واللوحةُ تردُّ بابتسامةٍ تشبهُ طلاسمَ الجنونِ الجميلِ.
X
تلتصقُ قصيدةُ النثرِ بالبيانِ كما تلتصقُ الشهوةُ بالبدنِ؛ لا تنفصلانِ، كلاهما يرفضُ الوزنَ والطاعةَ، تقولُ العاشقةُ إنّ المجازَ يمكن أن يكون عارياً فيُجيبُ الفنانُ المتمرّدُ أنّ اللهَ نفسهُ قد يبتسمُ من تحتِ الأقنعةِ، ثمّ يسكبانِ على الطاولةِ نبيذاً سودانياً ويشربانَهُ كأنه تاريخٌ شخصيٌّ للحداثةِ وقد وضعا توقيعَهُ على ظهرِ الفجرِ.
XI
في منتصفِ الليلِ يُعادُ تعريفُ الحبِّ ليسَ انجذاباً بين جسدين بل لقاءَ تيارين: العبثُ الأوروبيّ والحنينُ الإفريقيّ، الشهوةُ هنا مجازٌ سياسيّ والفنُّ توبةٌ مؤجلَةٌ من جريمةِ النظامِ والعقيدةِ، وعلى الحائطِ تُكتبُ عبارةٌ صغيرةٌ: من لم يخطئ في اللونِ لم يؤمنْ بالبيان، فتضحكُ الحانةُ بصوتٍ يَشبهُ رنينَ أدواتٍ قديمةٍ تُستعملُ لاحقاً كآلاتٍ طقسيةٍ للحنين.
XII
العاشقةُ الممحونةُ التي أرهقها النقاشُ تستلقي فوق الطاولةِ كلوحةٍ مفتوحةٍ للعرضِ، والمتمردُ يقرأُ من البيانِ: نحن نضحك على كل شيء حتى على الشهوةِ التي خلقتنا، فتغلقُ عيناها وتهمسُ: الدادائيةُ ليست ضد الإيمانِ بل ضد الجدوى، فتنفجرُ القهقهاتُ كقنابلِ لذّةٍ مقدّسةٍ، وتنبعثُ رائحةُ الطلاءِ ممزوجةً بعرقِ الرغبةِ في الهواءِ كأنّها صلاةٌ لا تُقرَأُ في المساجد.
XIII
مع انبلاجِ الفجرِ نغادرُ الطاولةَ حاملينَ آثارَ قبلاتٍ لم تُكتب بعد، تُفتحُ النوافذُ على بردِ زيورخ فيمتزج صوتُ الكنائسِ بصوتِ مؤذّنٍ سودانيٍّ ضائعٍ في المدى، ويولدُ البيانُ الثالثُ: بيانُ العاشقِ السودانيِ الذي يمزّقُ اللغةَ ليصنعَ منها صلاةً جديدةً، ونمشي إلى الفجر نَعْلَمُ أنّ البيانَ الحقيقيَّ لا يُكتَبُ بل يُعاشُ ويُتركُ على الطاولةِ كوشمٍ يخبرُ القادمِينَ أنّ هذه الليلةَ كانت ميلادَ ولادةٍ أخرى.
_______
سبتمبر 2025م
كلية الهندسة - جامعة القضارف
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى

