ديوان : محفوظات الفرعون
محفوظات الفرعون

مصعب الرمادي
محفوظات الفرعون
________________
الكتاب : محفوظات الفرعون
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : أكتوبر 2025م
___________________
جنية رمسيس الرابع
1
في
المقهى المطلّ على كورنيش النيل، حيث يذوب ضوء القمر في فناجين القهوة مثل
زئبقٍ فرعونيٍ قديم، جلستُ إلى "سحر سباجة" — تلك المصرية التي تضحك
بعينَي حتشبسوت، وتتنفّس مثل زهرة لوتسٍ خرجت من نومها بعد ثلاثة آلاف عام.
في شعرها تسكن الحيّات الصغيرة، وفي عنقها تتدلى خنافس الجِعارين التي
كانت تحرس مقابر الملوك من عبث العشّاق. همست لي أن رمسيس الرابع لم يمت،
بل استحال طيفًا يجلس بيننا، يُدخّن النرجيلة ويبتسم كأنه يعرف سرّ الغواية
الأولى حين خلقت الأنثى النيل من رذاذ شفتيها.
II
في تلك
الليلة، حين ارتعشت القاهرة مثل جسدٍ محمومٍ تحت قمر الجيزة، شعرتُ أن
الجنية خرجت من تمثال نهضة مصر. كانت عاريةً من كل الأزمنة، تلفّ خصرها
بورق بردي رطب، وتُعطّر صدرها بعصير حشائش النيل. لم تكن تتحدث، بل تُغويني
بنبضها، كأن جسدها جغرافيا من الطين والذهب والجنون. كلّ خطوة منها كانت
تعيد ترتيب كيمياء التاريخ، وكل نظرة تُعيد خلق الإغواء كما لو أن آدمَ لم
يخطئ بعد.
III
حين لامستني، رأيت الثعبان الأخضر الذي عاش في
أهرام دهشور يلتفّ حول فخذيها. كانت تقول بصوتٍ لا يسمعه غيري: “أنا ابنة
الماء، لست امرأةً من لحمٍ بل من تموّجٍ وعاصفة.” أدركت أن الشعر ليس
كلماتٍ بل نبوءة، وأن رغبة الأنثى الفرعونية ليست خطيئة، بل شكلٌ آخر من
الصلاة. فوق الطاولة كانت الجعارين تتحرّك كأنها تدوّن لنا قصيدةً لا تُقرأ
إلا بالحواس.
IV
في شارع الملكة نازلي، عند عتبة المقهى
المفضّل، كان النسيم يحمل عطر اللوتس الميتة من بحيرة الكرنك. هناك، رأيتها
تُخرج من حقيبتها تميمةً من الذهب، وقالت إنها تعود إلى جاريةٍ أحبّت
رمسيس الرابع حتى الجنون، ثم لُعنت بالخلود. وضعتها في يدي وقالت: “احذر،
هذه تفتح جسدك للخلود كما تفتحه اللذّة.” ضحكتُ وأنا أراقب أضواء السيارات
تمرّ مثل نيازك صغيرة فوق زمنٍ لم يعد يعرف الحياء.
V
قالت
الجنية: “في البدء لم يكن الشعر، كان الجسد. وكان الفرعون يكتب قصائده على
أفخاذ عشيقاته بالمداد الأزرق المصنوع من دمّ الخنافس.” تساءلت: أهذه هي
القصيدة أم الطقس؟ أجابت بعينين نصف مغمضتين: “القصيدة هي ما تبقّى بعد
انطفاء اللذة.” حينها فهمتُ لماذا تهرب القصائد مني بعد كل قبلة، ولماذا
يختبئ الشعر بين شقوق الرغبة، كأن الخلاص لا يُكتب إلا بعد سقوط آخر ورقة
لوتس في النيل.
VI
على مقهى “الانتريه” في الجيزة، بين أصوات
المراكب والباعة والموسيقى التي تتهجّى اسم القاهرة مثل صلاة وثنية، بدأتُ
أرى ظلالاً تخرج من جسدها. كانت خمس نساءٍ فرعونياتٍ يلتففن حولها، لكلّ
واحدةٍ منهنّ جسدٌ من طينٍ وريح، ولغةٌ من فلكٍ منسيّ. حاولت أن أكتبهنّ،
لكن القلم سال كدمعٍ من لعنةٍ قديمة. كلّ حرفٍ كان يفتح فيّ بابًا إلى زمنٍ
آخر، حيث يختلط الشعر بالعرافة، والأنثى بالقدر، واللعنة بالمتعة.
VII
في
تلك اللحظة، عبر من فوقنا سربٌ من طيور القطا، يحلّق نحو الصحراء كأنّه
يعرف أن الخلاص في الجفاف لا في النهر. نظرت إليّ وقالت: “حتى الطيور تفهم،
يا مصعب، أن الماء يغوي كما يغسل.” كان حديثها فلسفيًا ومجنونًا، لكنها
كانت تمسّ ساقيّ تحت الطاولة، وتمدّ لي سيجارةً لفّت بورق البردي، كأنها
تُعلّمني كيف يكون التنجيم بالجسد لا بالكواكب.
VIII
في عينيها
رأيت الأبراج القديمة، السديم الذي كتبه الكهنة على جدران المعابد، وقرأتُ
على لسانها نبوءةً لم تكتمل: “من سيحبّني بعدك، سيُجنّ أو يُقتل.” فضحكتُ
لأن الجنون صار قدري، وأنا الشاعر الذي يكتب على حافة بين الجنة والمقهى،
بين لعنة الفراعنة ونداء الشعر. شعرت أن الجنية تكتبني، لا أنا أكتبها، وأن
جسدي هو النصّ الذي أرادت أن تُعيد قراءته باسم الخلود.
IX
قالت
لي وهي تمسّد خدي: “كلّ ما كتبتَه في سمادير الجيزة كان عني.” لم أنكر،
لأن الكذب مع الجنيات محرّم. كانت تعرف أنني الشاعر الحداثوي الذي يستبدل
القافية بالقبل، والوزن بالنهد، والقصيدة بنشيدٍ يُقال في لحظة الغياب.
وبينما كانت القاهرة تُطفئ أنوارها، كنتُ أرى تمثال رمسيس يبتسم من بعيد،
كأنه يبارك هذا الجنون المقدّس الذي صنعناه على كورنيش النيل.
X
في
تلك اللحظة، مرّت أمامنا سيارة شرطة قديمة، وفي مرآتها رأيت انعكاس الجنية
وهي تذوب مثل بخور. تركت خلفها رائحةً من الطين واللوتس والعرق. فتحت دفتر
“محفوظات الفرعون”، وكتبت: “الحبّ نوع من التحنيط، نحفظ به ما لا نريد أن
يموت.” وعرفت أن الشعر، مثل المومياء، لا يفنى بل يتحوّل إلى طقسٍ أبديّ من
الحسّ والمعنى.
XI
حين سافرتُ معها إلى مطار القاهرة، كانت تضحك
بين جموع المسافرين، تشرب نبيذها كأنها تُقدّم قرابين الوداع. قالت: “في
أمريكا، لن أكون سحر سباجة، سأكون جنيّة رمسيس الرابع.” وحين أقلعت
الطائرة، نظرت من النافذة، فرأيت النيل يمتدّ كأفعى زرقاء تعبر التاريخ.
عندها فقط أدركت أنني لم أغادر مصر، بل دخلتُها إلى الأبد — من فخذ الجنية،
إلى قلب القصيدة، إلى لعنة الشعر التي لا خلاص منها.
عند شارع الملكة نازلي
I
في
شارع الملكة نازلي حيث تختلط أصوات السيارات برائحة التاريخ المحروق كنتُ أسير مع سحر سباجة، وهي تضحك بخفّة امرأةٍ تعرف أن الجمال أقوى من
الثورة. كان المساء مصريًا أكثر من اللازم، والهواء يحمل ظلّ مروحةٍ ملكيةٍ
قديمة تدور فوق رؤوسنا منذ عهد فؤاد. قالت لي: “كلُّ شارعٍ في القاهرة
جمهوريةٌ مصغّرةٌ من الفوضى والحنين.” قلت: “بل كل جمهوريةٍ تمثالٌ مكسورٌ
لملكةٍ كانت تضع الكحل بدماء الفرنسيين.”
II
عند مقهى “ريش”،
جلسنا نستعيد أيام فؤاد الأول حين كان المصريّ يظن أن التاج هو الشمس. قالت
سحر وهي ترفع كأس عصيرها كأنها ترفع بيانًا جمهوريًا: “لم تكن الملكية سوى
طريقةٍ لارتداء الغرور.” قلت لها: “لكنها أنيقة، تمامًا كالموت.” ابتسمت
وهي تُقلّد نازلي في حركتها الشهيرة حين تزيح الوشاح عن كتفها. كان في تلك
الإيماءة تاريخٌ من الفتنة أكثر مما في ميدان التحرير من شعارات.
III
مررنا
قرب بوابة قصر عابدين، فشعرتُ أن الجدران تتنفس رائحة العطر الفرنسي
القديم. قالت سحر: “بعد معركة إمبابة، تسرّب الفرنسيون إلى العظام، لا إلى
الشوارع.” قلت: “ربما لهذا صرنا نحبّ المرايا أكثر من النيل.” ضحكت: “لأننا
أبناء مرآة، لا أبناء طين.” كانت تمشي كأنها تُدرّب الأرض على النعومة،
وكأن الثورة مجرد رقصةٍ متأخرةٍ من أوبرا مفقودة.
IV
في شارع
شامبليون، توقّفت أمام لافتةٍ مهترئةٍ كتب عليها “مكتبة الجمهورية”. قالت:
“أتعلم يا مصعب؟ هذه الكلمة لم تُترجم بعد.” سألتها: “الجمهورية؟” أجابت:
“نعم، في مصر ما زلنا نلفظها بلكنةٍ ملكية.” ضحكنا، لأننا كنا نعرف أن
الشعب الذي يرقص في الموالد لا يثق في القصر، ولا في البرلمان، بل في
الموالاة الغامضة للحياة ذاتها.
V
في ميدان الإسماعيلية — الذي
سمّوه لاحقًا “التحرير” — شعرتُ أن التماثيل تراقبنا بغيرةٍ من حجر. قالت
سحر: “فؤاد لم يكن يكره الشعب، كان يخافه، كما يخاف الإلهُ المؤمنين.” قلت:
“والجمهورية، أليست شكلًا آخر للخوف؟” أجابت: “ربما، لكنها تخاف من
نفسها.” مرّت فتاة تبيع الورد وقالت لي: “هات يا بيه لوتس مش فرنسي.” ضحكتُ
لأن حتى الزهور صارت تعرف جغرافيا الأصل.
VI
في زقاق صغيرٍ خلف
الأوبرا القديمة، جلسنا في مقهى يعجّ بالطلبة والشعراء والمومسات. قالت
سحر: “ها هنا بدأت الجمهورية الحقيقية، من أنين الكمنجات لا من البيان
العسكري.” قلت لها: “لكنهم نسوا أن الحرية لا تُعلن بل تُغوى.” نظرت إليّ
بعيني نازلي وقالت: “وهل كتبتَ شعرًا عن الغواية السياسية؟” قلت: “كلُّ
قصيدةٍ جمهوريةٌ في جسد امرأة.”
VII
في تلك الليلة، عبرنا كوبري
قصر النيل، والماء تحتنا يلمع كأنه بلّور الثورة الأولى. قالت: “مصعب، أنت
تؤمن بأن الفراعنة ما زالوا يحكموننا، أليس كذلك؟” قلت: “نعم، لكنهم الآن
يلبسون بدلاتٍ أوروبية.” ضحكت بصوتٍ جعل الحمام يطير فوق النهر: “إذن نحن
مملكةٌ متنكرة في هيئة جمهورية.” قلت: “بل جمهوريةٌ خائفة من أن تعود
ملكة.”
VIII
في حيّ جاردن سيتي، عند جدار السفارة الفرنسية، وقفت
سحر تُلقي خطابًا وهميًا: “أيها المواطنون، نحن الفرنسيون الذين بقينا بعد
إمبابة!” تصفيق الشارع الخفيّ جعلها تبتسم. قلت لها: “كأنّك تستدعين أرواح
الحملة.” قالت: “بل أستدعي نساءها اللواتي علّمن المصريات كيف يبتسمن في
وجه السلطة.” كانت تمشي كأنها ترتدي ذاكرةً من الموسلين والدم، كأن باريس
لم تخرج من القاهرة بعد.
IX
في الزمالك، مررنا على قصر قديم
تحوّل إلى فندق. قالت: “هذا كان بيتًا لأحد أحفاد فؤاد، يعيش الآن في
مونتريال.” قلت: “المنفى هو الملكية الأخيرة.” أجابت: “والشعر هو جواز
السفر إليها.” جلسنا تحت نافذةٍ مكسورة، أطلّ منها شبحٌ يرتدي بذلة ملكيةٍ
ويقول: “لقد استعرنا الجمهورية من الفرنسيين، كما استعرنا لغتهم في الحب.”
X
في
جولةٍ ليليةٍ بوسط البلد، رأيتُ سحر تمشي بخفّةٍ بين الباعة كأنها أميرةٌ
تنكّرت لتختبر الشعب. قالت لي: “هنا التقى النيل بالبورجوازية، والفرعون
بالبوّاب.” قلت: “وهنا تزوجت الجمهورية من الرغبة.” ضحكت: “ولم تُنجب سوى
الأوهام.” كانت القاهرة تبتسم بخطاياها، كأنها امرأةٌ تعرف أن الفضيلة ليست
سوى ثوبٍ احتياطي.
XI
في شارع عماد الدين، توقّفنا أمام مسرحٍ
مغلق. قالت سحر: “الملوك أحبّوا المسرح لأنهم ظنّوا أنهم الآلهة.” قلت:
“والجمهور أحبّهم لأنهم يقتلون على الخشبة.” قالت: “أما الجمهوريون،
فقتلتهم الحياة الواقعية.” كنتُ أراها تتكلم بحزنٍ نازليٍّ شفاف، كأنها آخر
من تذكّر أنّ الأنوثة أيضًا نوعٌ من الحكم.
XII
عند تمثال سعد
زغلول، وقفتْ كأنها تُنصّب تمثالًا آخر في داخلها. قالت: “هذا الرجل صنع
جمهوريةً من الكلام، ثم تركها تنهار في المقهى.” قلت: “لكن الكلام هو الفعل
الأخير للأمة العاشقة.” أجابت: “لهذا نُحب الشعراء، لأنهم آخر الملوك.”
عندها فهمت أن الثورة ليست فعلًا سياسيًا، بل قبلةٌ في شارعٍ مزدحم.
XIII
في
آخر الليل، حين عدنا إلى كورنيش النيل، خلعَت سحر نظارتها وقالت: “الملكة
نازلي لم تمت، بل غيّرت اسمها إلى الجمهورية.” قلت لها: “والفرنسيون؟”
أجابت: “ما زالوا يسكنون في الدم المصري، في طريقة الأكل، في اللمسة، في
اللكنة، في الغواية.” جلستُ أدوّن كلماتها، وأشعلت سيجارةً من ورق البردي.
قالت وهي تنفث الدخان: “اكتب يا مصعب، فكلُّ جمهوريةٍ تبدأ بامرأةٍ تشتهي
تاجها.
نظارة وائل بن حُجر الحضرمي
I
في
صباحٍ ذهبيٍّ على رصيف الأهرام، كانت "سحر سباجة" تضع نظارتها السوداء
وتضحك. قالت لي: "حتى وائل بن حُجر لو عاش اليوم لاحتاج نظارة كهذه، ليبصر
ما فعلناه بالحضارات!" ضحكت، لكن ضوء الهرم انعكس في عينيها فصار طيفًا من
نارٍ ونبوءة. هناك، على الرمل الذي حفظ عظام الملوك، تذكّرت أن حضرموت كانت
يومًا تفتح جفونها على الفجر مثل امرأةٍ من الصعيد. وأن الشعر ليس سوى
نظارة نرى بها التاريخ وهو يعيد تمثيل نفسه في أجساد النساء الجميلات.
II
في
وادي الملوك، حيث لا يُسمع سوى خشخشة الحجارة القديمة، كانت سحر تسألني عن
أصل اللعنة. قلت لها: "اللعنة ليست فرعونية، بل بدوية؛ جاءت من حرب البسوس
حين صارت الخيول تنبح كالبشر." عندها، همست وهي تمسح الغبار عن جدارٍ
منقوش: "كلُّ نقشٍ هو جرح، وكلُّ جرحٍ هو تذكّرٌ لرجلٍ غاب." رأيت على
الحجر وجه وائل بن حُجر، ذلك القيل الحضرمي، يرفع رايةً من نورٍ ودمٍ في
صفين، كأنه لا يزال يحرس القبائل من انقراض المعنى.
III
كانت
الريح القادمة من الأقصر تحمل رائحة الطين والنخيل، وأسمع في أنفاسها خيول
بني تغلب وهي تصهل في حلايب. كانت سحر تمشي حافية القدمين على تراب سقارة،
تقول: "البدوي حين يعشق يصير فرعونًا." قلت لها: "والفرعون حين يخطئ يصير
بدويًا." ضحكنا، فاهتزّت الجمال في الأفق، كأنها تشهد علينا. في تلك اللحظة
أحسست أنني أكتب من جسدها تاريخًا آخر للبسوس، لا يبدأ بالناقة، بل بنهدٍ
يرفض القسمة.
IV
عند تمثال رمسيس الثاني في منف، وضعت رأسها على
كتفي، وقالت: "وائل بن حُجر كان يرى ما لا يُرى، لم يكن ملكًا بل وسيطًا
بين الغيب والقبيلة." سألتها: "وهل كان يرى النساء أيضًا؟" أجابت وهي
تبتسم: "كلّ نبيٍّ يرى المرأة أولًا، ثم يرى الله بعدها." لم أجد ما أقول،
سوى أنني، مثله، أقف على تخوم الإدراك، أرى في عينيها رمال حضرموت تنادي
غبار البحر الأحمر.
V
في قطار الأقصر، كانت النوافذ تمطر ضوءًا.
سحر تمدّ يدها على فخذي وتقول: "أخبرني عن نظارة وائل." أقول: "هي ليست
نظارة عين، بل نظارة روح، بها يرى الحاكمُ الغيب قبل أن يحكم الناس." تضحك
وتهمس: "وأنت، ترى بها جسدي قبل أن تكتب قصيدتك." عندها صمتُّ، لأن الشعر
في تلك اللحظة صار شكلاً من الحكم، ولأن حُكم النساء لا يُستأنف.
VI
في
برّانيس، عند شاطئٍ تغسله الخرافات، رأيت قمرًا يخرج من البحر كأنه درع
وائل بن حُجر. سحر تمشي بثوبٍ شفاف، تترك أثراً من الملح على الرمل. قالت:
"البدو لا يعرفون البحر، لكنهم يغرقون في النساء." قلت: "لذلك كتبنا البقط
مع النوبة، لا لنسالمهم بل لنتعلم منهم كيف يكون الصبر على الماء." نظرت
إليّ بعينين تلمعان كجعرانين أسودين، وقالت: "أنت لا تسالم الشعر، أنت
تهاجره."
VII
في متحف الأقصر، أمام تمثال آمون، تحدثنا عن
الاتفاقية القديمة — البقط، ذلك الصلح المغمور بين الرمح والسهم، بين
الإسلام والعطش. قلت لها: "في القضارف، ما زالت الإدارات الأهلية تلبس
عباءة وائل، وتدّعي أنها تعرف موازين السماء." قالت: "لكنهم نسوا أن
الفرعون أيضًا كان شيخ قبيلة." عندها فهمت أن التاريخ لا يسير إلى الأمام،
بل يدور حول أنوثةٍ أزلية، تلد كل الحروب ثم تبكيها.
VIII
في ليل
شلاتين، حين تنام الإبل على الرمل، كانت سحر تقرأ لي من كتابٍ عن ملوك
حضرموت. قالت: "كان وائل بن حُجر يقود قبيلته بالعِطر لا بالسيف." أجبتها:
"وأنا أقود قصيدتي بالقبل لا بالقافية." ضحكت وقالت: "كلّنا أبناء الرمل،
لكننا نختلف في طريقة العطش." حينها، شعرت أن الصحراء تمدّ يدها لتصافح
النيل، وأن جسدها هو الاتفاقية السرية بين الماء والرمل.
IX
في
طريقنا إلى وادي حلفا، كان غروب الصحراء يشبه وجهها حين تصمت. تحدثنا عن
النوبة، عن الأجراس القديمة، وعن أول سهمٍ دخل مصر. قلت لها: "البقط لم يكن
معاهدة بل قصيدة، كتبها العرب حين اكتشفوا أن الحرب لا تنتهي إلا حين
تبتسم امرأة." ردّت بهدوء: "وكل قصيدة لا تبدأ بامرأة، تنتهي بخراب."
فابتسمتُ، لأني أدركت أن الخراب هو بداية الشعر.
X
في ساحة معبد
الكرنك، كانت أصابعها تتلمس النقوش على الجدران كأنها تقرأ باللمس. قالت:
"أرأيت كيف تُكتب الآلهة في الحجر؟" أجبت: "وائل كان يكتب قبيلته في الرمل،
وأنا أكتبك في الجسد." حينها، رفعتْ عينيها وقالت: "كل كتابةٍ هي استعانة
بالجن، يا مصعب، حتى هذه." شعرت أن الجنية الأولى من ديواننا السابق تبتسم
في البعيد، تُبارك هذا اللقاء الذي مزّق المسافة بين الشعر والنبوة.
XI
في
معبد حتشبسوت، وقفتْ سحر كأنها تتجسّد في الملكة. قلت لها: "أنتِ أجمل من
السلطة." قالت: "السلطة ليست للرجال، بل لمن يعرف كيف يُخفي ضعفه." ثم
قبّلتني قبلةً صامتةً جعلتني أنسى صفّين وكلَّ رايات حضرموت. هناك، بين
أعمدة الصخر، شعرت أن وائل بن حُجر لم يكن صحابيًا فقط، بل عاشقًا تاه بين
الله والقبيلة والمرأة.
XII
في أبورماد، كانت رائحة البحر تمتزج
بدخان البخور. قالت: "العشق في الصعيد يشبه الحكم في حضرموت، كلاهما يحتاج
إلى شجاعة الصمت." كنت أفكر في نظارته، تلك العدسة الروحية التي يرى بها
الفقيه ما وراء الجسد. لكنها كانت تضحك وتهمس: "حتى الفقيه يحتاج جسدًا
ليرى الله." عندها فهمت أن كل قصيدةٍ فقه، وكل جسدٍ فتوى.
XIII
حين
عدنا إلى القاهرة، وقفنا أمام تمثال نهضة مصر. كانت السيارات تمرّ،
والهواء يموج بأنفاس المدينة. قالت: "هل ترى كيف تنهض المرأة من الحجر؟"
قلت: "هي لا تنهض، بل تُعيدنا إلى أصلنا." تذكّرت وائل بن حُجر وهو يرفع
راية حضرموت يوم صفين، كأنه يرفع قلب امرأةٍ نائمة على الرمل. التاريخ إذًا
ليس إلا نهوضًا دائمًا من نومٍ طويل في حضن الحنين.
XIV
في
المقهى المطلّ على النيل، ذات المكان الذي شهد جنيات رمسيس، كنا نحتسي
القهوة ونضحك. سحر تميل وتقول: "لقد صرتَ ترى بالعقل والعين معًا." قلت:
"هذه هي نظارة وائل." ضحكت: "بل نظارة العاشق الذي كُتبت عليه لعنة الشعر."
كان الليل يتثاءب على صفحة النهر، والنوارس تهبط كأنها رسائل من السماء
تبارك لقاءنا الثاني بعد اللعنة الأولى.
XV
حين افترقنا في مطار
القاهرة، قالت وهي تلوّح بيدها: "خذ نظارتي، ستحتاجها لترى ما تبقّى من
الشعر." لبستها، فرأيت العالم كله يسبح في لونٍ ذهبيٍّ من الغواية والذكرى.
رأيت حضرموت تصافح الأقصر، والنوبة تهمس للبحر الأحمر، وسحر سباجة تمشي
داخل قصيدتي كإلهةٍ منسيةٍ في اتفاقية البقط. أدركت أن الشعر، مثل الحكم،
لا يُمنح لأحد، بل يُؤخذ بالحبّ، وتُدفع فديته بالجنون.
______
سبتمبر 2025م
حي المنارة- القضارف


تعليقات
إرسال تعليق