ديوان : تنازلات زيلينسكي

 تنازلات زيلنسكي

مصعب الرمادي

تنازلات زيلينسكي

____________________
الكتاب : تنازلات زيلينسكي     
 الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : سبتمبر  2025م

حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف

___________________________

*إلى بطل الحرب و زعيم بلاده خلال الغزو الروسي عليها الرئيس الأوكراني /  فولوديمير اوليكساندر زيلينسكي   

_______________

 بلد الجميلات
تتراقص النساء في ضوء الصباح كأجنحة طائر نادر، تتماوج خصلات شعرهن كالأنهار المتلألئة تحت الشمس، تتفتح الابتسامات على شفاههن كزهور تتحدى برد الشتاء، عيونهن تحمل أسرار القلوب القديمة وتقرأ ما بين السطور، ويظل كل مرور لهن قصيدة مكتوبة على جدران المدينة.

 اجمل نساء العالم من أوكرانيا  ،  اجملهن بكل تأكيد من كييف و أوديسا و خيرسون و لفيف و بولتافا  و خاركيف و دنيبرو و غيرها   ، انهن يمشين بين الأزقة بخفة الخطوات وهدوء الملكات، تحيط بهن هالة من الجمال الطبيعي الذي لا يحتاج لمكياج أو حيل  ، تتساقط ضحكاتهن كأمطار خفيفة على أسطح البيوت القديمة، فتتردد الأصوات بين الحواري كما لو كانت تعيد بناء التاريخ، ويشعر المارّ أن المدينة نفسها تحتفل بوجودهن.

في الأسواق القديمة، تتحرك بين الألوان والروائح كما تتحرك الموسيقى، كل خطوة تنسج نغمة جديدة، الأقمشة الملونة تتماوج على أرففها كما لو كانت تستحضر جمالهن، والزهور والعطور تتبعهن كأنها تحرس عطر الروح، والأطفال يلتقطون النظر إلى وجوههن في دهشة ودهشة قلبية، فتظل المدينة في حالة سحر دائم.

الحقول المحيطة بالمدن تتفتح تحت أقدامهن، الزهور البرية تصافح كاحليهن، والنسيم يحمل رائحة الأرض والماء معًا، الأشجار تميل إليهن كما لو كانت تحترم قوة جمالهن، والسماء تتألق بزرقها العميق مع لمسة غيوم ناعمة، فتبدو كل لحظة حضورهن لوحة متكاملة من الجمال الطبيعي والبساطة الساحرة.

ضحكاتهن لا تعرف الحدود، تتسلل إلى كل مكان بلا استئذان، تملأ البيوت والطرقات بالموسيقى، النظرات تحمل دفءً مقنعًا يذيب برد الأيام، والأصوات تتماوج مع صدى الماضي والحاضر في آن واحد، فتصبح كل لحظة اقتراب منهن حكاية جديدة يكتبها الهواء على صفحات الزمن.

العيون الزرقاء والخضراء تتلألأ ببراءة ودهاء معًا، تحمل ذكريات أجيال لا يعرفها التاريخ، كل ابتسامة تعكس نور الشمس وتحيي الأرواح، الشعر المنسدل كخيوط الحرير يختلط مع نسيم النهار، والجلد المتألق يحمل حرارة الشمس والريح معًا، فتصبح كل امرأة منهن نهرًا من الضوء في قلب المدينة.

في المساء، عندما تهدأ الأزقة، تتجمع النسوة كما لو أنهن نجوم تسقط على الأرض، يتحركن بصمت ملكي، كل حركة تروي قصص الحب والانتظار والحنين، الحكايات القديمة تتشكل في أعينهن، والمدينة تتنفس جمالهن في كل زاوية، فيختلط الواقع بالخيال ويصبح كل لحظة عبور لحلم حي.

النساء الأوكرانيات الجميلات  هنا يملكن هالة من القوة غير المرئية، لا يعرفها سوى من يلتفت بتمعن، جمالهن ليس شكليًا فحسب، بل قوة تجعل كل شيء حولهن يتوازن ويستقيم، النظرات تصنع السلام والاضطراب معًا، الكلمات لا تكفي لوصف تأثير وجودهن، والهواء نفسه يبدو أثقل جمالًا عند مرورهن.

الضحكات تتلاحق بلا توقف، تصنع سيمفونية من الضوء والصوت، الأيدي الرقيقة تحمل حكايات متراكمة عبر الزمن، العيون تتنقل بين الماضي والمستقبل كما لو أنها تحمل مفاتيح العالم، الخطوات على الأرض تنسج موسيقى بلا توقف، فتصبح كل لحظة مرور لهن تاريخًا حيًا لا يموت.

في الأمسيات، يكتسي الشعر بألوان الغروب ويعكسه على وجوههن، الأصابع تتحرك كما لو كانت ترسم العالم، الحواس كلها تصبح حاضرة لتستقبل جمالهن الكامل، الصمت نفسه يصبح موسيقى، والمدينة كلها تنحني أمام سحر وجودهن، فتظل الصور محفورة في ذاكرة كل من يمر بجانبهن.
 

 الجميلات في هنا البلد الساحر الا يعرفن الكسل، الحركة في كل لحظة تنقلهن بين الواقع والحلم، كل ابتسامة تنقلك إلى عصر آخر، كل ضحكة تكشف عن قوة خفية لا يراها سوى المارة، العين تلتقط الضوء وتعيده، والشمس نفسها تخفت احترامًا لجمالهن، فتصبح كل لحظة معهن تجربة حياة كاملة.

الأطفال يلتقطون الجمال بلا وعي، يحفظونه في أعينهم وقلوبهم، يتعلمون الحب من خلال النظر إليهن، تتبعهم الألوان والروائح والأصوات، وتصبح المدينة كلها مدرسة للجمال والسحر، حتى الطيور تتوقف للحظة لتراقبهن، ويشعر الجميع بأن العالم يتسع مع كل خطوة يخطونها.

حتى الليل يحتضنهن ويعيد توزيع الضوء والظلال على وجوههن، النجوم تنسجم مع حركة الشعر والعيون، القمر يصبح مرآة تعكس جمالهن في كل مكان، الهواء يحمل رائحة الأرض والنهر والزهور معا، فتصبح كل لحظة مرور لهن رسالة أبدية للجمال والخلود، ويظل الزمن هنا يرقص على إيقاع خيالاتهن الساحرة.
 

عقلية ستالين
I
كان ستالين طفلاً نابغاً ذا ذاكرة خارقة، يحفظ كل ما يقع بين دفتي الكتاب، يقرأ التاريخ كما لو أنه أوراقه الخاصة، ولكن عبقريته تحوّلت إلى سيف يُطعن به الآخرون، والذكاء صار سجنًا يخنقه، والفكر أصبح مقصلة تحت يديه، كأن موهبته قُدِّرت لتقتل الأمان قبل أن تنجب الحكمة.

II
انضم إلى الحركة البلاشفة كمن يبحث عن عبادة سرية، وحمل الماركسية ككتاب مقدس، لكنه سرعان ما نبذ الثورة العالمية واستبدلها باشتراكية محلية مغلقة، ليبني من حوله حصونًا من الشكوك والريبة، ويجلس على عرش خوفه متجردًا من الرحمة، يزرع الحذر في كل قلب يقترب منه ويزرع الرعب في كل شارع.

III
حملات التطهير لم تكن سوى مقابر متحركة، كل رفيق يُتهم قبل أن يثبت براءته، وكان الخوف يلوح فوق المكاتب والمدارس والبيوت، حتى أصبح الشعب كله مشروع ضحية مؤجلة، والطاغية لم يعد يثق بزوجته، ولا بصديقه، ولا في ظلّه، ولا حتى في صورته على المرآة، فكل شيء يبدل شكوكه إلى معارك مع الأشباح.

IV
أما في زمننا، يقف زيلينسكي ممثلاً على خشبة حرب لم تكتب نصوصها بعد، يواجه الرصاص والصواريخ والدمار بلا بروفة ولا جمهور، ضاحكته القديمة ذابت بين صرخات الإنذار، وكل كلمة تُنطق تتحول إلى صدى في وهدة المدن المحترقة، وكل خطوة يخطوها على الأرض الممزقة أشبه بالرقص فوق حبال مشتعلة لا تعرف الرحمة.

V
في الغزو، تقدمت القوات الروسية نحو العاصمة، لكنها فشلت في السيطرة عليها، فالمدينة صمدت كما القلب الذي يرفض الانكسار، وكل شارع كان ساحة معركة بين الإرادة والرعب، وبين الرصاص والحياة، والأبنية تندحر كأوراق شجرة خريفية، بينما الأطفال يختبئون تحت الركام ويمسكون بدمى مشوهة وكأنها آخر علامات البقاء.

VI
المعارك تمركزت في الشرق والجنوب، حيث الأرض هناك تحولت إلى مرجل يغلي بالنار والدم، خاركيف تنزف في كل شارع وكل ركن، خيرسون ترتجف كأرملة مكلومة، ماريوبول غرقت في محيط من الدمار والخراب، زابوروجيا ترتقب مفاعلاتها النووية كقنابل مؤجلة، أما دونباس وباخموت فكانتا مسرحاً للجحيم المتواصل بلا توقف، والسماء تراقب بلا رحمة.

VII
الصواريخ الباليستية انطلقت كوحوش معدنية تمزق السماء، المسيّرات راقبت البيوت كما لو أنها عيون جحيمية، والمدفعية الثقيلة عزفت نشيد الخراب فوق أسطح المستشفيات والمدارس، كل طلقة تمحو صفحة من كتاب الحياة، وكل مدينة تصرخ بلا مجيب، والدم ينسكب كما لو أن الأرض نفسها تبكي بلا توقف، والضحايا أرقام تُسجل على دفاتر مجهولة.

VIII
ستالين يعود كطيف يبتسم من الرماد، ابتسامته الجليدية ترتسم على كل أنقاض، وابتداعه للريبة يتكرر في عقول الجيل الجديد من الجنرالات، كأن الحرب مرآة مشروخة تعكس ذات الوجه بملامح جديدة، وكأن آلة التاريخ مصممة خصيصًا لإعادة إنتاج نفس الكابوس، والفكرة نفسها تُعاد بإصرار، والضحايا يزدادون كما تتراكم الثلوج على جبل نائي.

IX
زيلينسكي يفاوض كمن يسير على حبل مشدود فوق هاوية، يضطر إلى التنازل ليبقى على قيد يوم آخر، ثم يتنازل مرة أخرى ليشتري أسبوعاً إضافياً، بينما الخراب يزداد والصواريخ تنهال على البيوت، والوقت ينزلق بين أصابعه مثل رمال لا تتوقف عن التدفق، وهو يعرف أن كل دقيقة تمثل حياة أو موتاً، وكل قرار خطيئة محتملة أو بطولة مؤجلة.

X
التاريخ يكرر ذاته بلا هوادة، فكما فقد ستالين ثقته في الجميع وصار أسيراً لشكوكه، يفقد العالم اليوم ثقته في النظام الدولي، الخرائط تُقسم بين القوى الكبرى كما تُقسم الموائد في وليمة سوداء، والضحايا مجرد تفاصيل لا تُحسب على الجداول، والموت يُباع على أنه درس للبشرية، وكل الخراب هو شهادة على جنون السلطة.

XI
كان ستالين يكره المرايا لأنها تكشف ضعفه، واليوم تُكسر المرايا بالصواريخ التي لا تفرّق بين وجوه الأطفال والجنود، بالأمس ماتت الثورة في أقبية مظلمة، واليوم تموت المدن على الهواء مباشرة أمام ملايين الشاشات، والفارق الوحيد أن الدم صار قابلاً للبث الحي، والضحايا جزء من محتوى إخباري يُستهلك بلا دموع.

XII
الطفل العبقري الذي حلم بأن يصبح شاعراً صار سجّاناً للجماهير، والكوميدي الذي حلم أن يبقى نجماً محبوباً صار بطلاً تراجيدياً بلا اختيار، كلاهما ابتلعته مسرحية أكبر منهما، مسرحية لا تسدل ستارها أبداً، والجمهور الوحيد هو التاريخ نفسه وهو يضحك من خلف الكواليس، والدماء تتساقط بلا توقف كأوراق شجرة خريفية.

XIII
التطهير القديم كان اغتيالات صامتة وأوامر مكتوبة بخط بارد، واليوم هو مدن كاملة تُمحى من الخرائط بالقنابل، الأمس قتل الرفاق في أقبية مغلقة، واليوم تُعدم الأحياء السكنية في وضح النهار، لكن الرعب لم يتغير، فقط ازداد اتساعاً وعلانية، والضحايا لم يعودوا أرقاماً بل شواهد على استمرارية الجنون.

XIV
كل تنازل يقدمه زيلينسكي ليس ضعفاً بل مراوغة للبقاء، يشبه لاعب شطرنج فقد نصف قطعه ومع ذلك يصر على الاستمرار، يحاول أن يشتري وقتاً ولو دقائق، أن يحمي بيتاً أو مدرسة أو جندياً جريحاً، لكنه يعرف أن الرقعة كلها ملوثة بدماء لا تجف، والضحك الساخر للتاريخ يعلو فوق القصف بلا توقف.

XV
الأطفال في الملاجئ يرسمون بيوتاً لم تعد موجودة، يكتبون أسماءهم على الجدران خشية أن يُمحوا من الذاكرة، الأمهات يخفين الحليب تحت الركام كما تخبئ القديسات الأسرار، الآباء يحرسون المدن بالدموع لا بالبنادق، والسماء تسخر منهم جميعاً بضحكات مدافعها الثقيلة، والفقراء لا يجدون سوى الهواء ليبكوا عليه.

XVI
ستالين عاش أسير أوهامه حتى بين أقرب جنوده، وزيلينسكي يعيش أسير وعود الحلفاء التي تذوب في الهواء، الأول كان يقتل ليبقى في السلطة حتى وهو يتآكل، والثاني يساوم كي يترك بلاده تتنفس يوماً إضافياً، وكلاهما يدور في طاحونة أكبر من حجمهما، التاريخ يبتسم لهم بسخرية قاتلة، والدم يتدحرج بلا توقف على الأرض.

XVII
وفي النهاية، يبقى التاريخ مرآة مشروخة لا تكف عن السخرية، تعكس وجوه الطغاة في أشكال مختلفة لكنها تحمل ذات الجنون، وتعيد عرض المأساة نفسها بديكور جديد ودماء جديدة، أما السؤال الذي يظل معلقاً فهو: هل سيجرؤ المستقبل على كسر الحلقة الجهنمية؟ أم سيبقى التاريخ يضحك ويتركنا ننتظر بلا قرار، وسط أنقاض المدن والأطفال والذكريات؟!. 

____

سبتمبر 2025م

السفارة الأوكرانية - الخرطوم 

تعليقات

المشاركات الشائعة