ديوان : ندوة الأبيض
ندوة الأبيض

مصعب الرمادي
ندوة الأبيض
________________
الكتاب : ندوة الأبيض
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : سبتمبر 2025م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
_______________________
بيان الكتابة الفكري لندوة الأبيض
نحن، أبناء الصحراء والسهول، المولودون بين الكثبان والرعاة، الواقفون في قلب الأبيض، نعلن أن الكتابة لم تعد حبرًا على الورق، بل صيرورة ملتهبة، نارًا في قلب الرماد، ورياحًا تهزّ جدران الصمت.
إن "ندوة الأبيض" ليست اجتماعًا عابرًا ولا ترفًا ثقافيًا، بل وقفة في وجه المحو، محاولة لتشييد منارات في ليل الخراب. هنا، حيث تعانق الرمال شجر الهشاب، تتجدد اللغة، وتتفتت الحدود بين القصيدة والصرخة، بين النثر والرؤية، بين البيان والمصير.
نعلن أن الكتابة فعل مقاومة ضد النسيان، وأنها ليست ملكًا للصالونات ولا لمؤسسات الوهم، بل هي حقّ المقهور، سلاح الهائم، ومرآة المنفيّ.
نرفض أدب التزيين والتخدير، ونعلن ولاءنا لكتابة تشبه الدم، تتسرب من الجرح ولا تخجل من ندبتها.
*ندوة الأبيض تدعو إلى:
1-إعادة المعنى للمدينة: أن تتحول كل مدينة إلى نصّ مفتوح، وكل شارع إلى قصيدة تمشي على أرصفة الذاكرة.
2- تحرير اللغة من سلطة القوالب: فلتكن الكتابة متشظية، عارية، متفجرة كالرعد، لا تخضع لنحوٍ ولا لعروض.
3- مزج الجذور والآفاق: نحن أبناء النوبة والبوادي، نكتب بمداد الطبول وهدير المواشي، لكننا أيضًا أبناء الأسطورة الكونية، نصغي لهوميروس كما نصغي لطبقات ود ضيف الله.
4- الكتابة جسد: تعرق، تشتهي، ترتجف، وتقاوم. لسنا أعداء الشهوة ولا الحلم، بل نُدخلها في نسيج النص لتتحول الكتابة إلى جسد جماعي.
5- المستقبل يبدأ الآن: لسنا ماضويين ولا متحسرين، بل نكتب كي نخترع الغد، غدًا لا يكون نسخة من خرائب اليوم.
*إن بيان " ندوة الأبيض " يعلن موت الأدب الذي يخدم السلطة، ويعلن ميلاد أدبٍ يخدم الحرية. إنه نداء إلى الكتّاب، الشعراء، المفكرين، المنفيين، الحالمين: تعالوا إلى الأبيض، ولو في الخيال، كي نصوغ معًا ملحمة جديدة، لا تشبه إلا نفسها.
تحرير بارا
I
بارا تتنفس مرة أخرى بعد دخان المعارك، والجنود يخطون في ترابها مثل من يمسح تاريخًا طويلًا من العنف. هنا، حيث كانت مليشيات الدعم السريع تجوب الأزقة، تستعيد المدينة شكلها القديم، تصحو على صخب الخطوات، صوت البنادق يستبدل بصدى الأصوات المدنية، وصراخ الأطفال يقطع الصمت بعد سنين من الرعب. المدينة التي شهدت استبسال الجنود السودانيين، تستعيد ألوانها، وتستعيد معها مزاج الكردفانيات اللائي يقفن عند نوافذ البيوت يراقبن تاريخهن وهو يُعاد كتابته.
II
الجنود يتقدمون على خطوط الصراع كأنهم يتتبعون خيوطًا ضائعة من الزمن. مقارنة بمعركة شيكان أو معركة الأبيض في زمن المهدية، يظهر تكرار التاريخ في صلابة الرجال، في دقة الخطط، في استبسال المقاومين، لكن هنا، الحكاية تحمل بصمة العصر الحديث: سلاح أكثر حداثة، وتحالفات غير معلنة، ومدينة أصغر لكنها تمثل شريانًا استراتيجيًا لا يُمكن تجاوزه.
III
مداخل بارا تحولت إلى لوحة حربية، أماكن قديمة تحمل في طياتها ذكريات القرن التاسع عشر، أما اليوم، فكل شارع يحمل رواية جديدة عن الشجاعة والتضحيات. النساء الكردفانيات هنا يراقبن كأنهن أمّهات التاريخ، يستمددن القوة من الارتباط بالخرطوم والأبيض، يحملن في وجدانهن قصص المدينة وحلم الاستقرار، ويعشن في تداخل الحنين واليقظة.
IV
ليست المعركة مجرد قتال، بل فعل تأريخي، إعادة مدينة إلى حضنها الطبيعي، إلى حضن الدولة، إلى حضن المدنيين الذين لم يعرفوا الأمان إلا بعد سقوط آخر نقاط المقاومة المسلحة. هنا يذكر ليمون بارا، رمز الفواكه المحلية والمذاق الخاص بالأرض، كما لو أنه شهود طبيعي على الصمود، على الأيام الحارّة التي شهدت القصف والمدافع، وعلى الليالي التي تحولت إلى حكايات تُحكى للأجيال القادمة.
V
خطوط النار والجبهات تنحني أمام إرادة الإنسان، أمام تصميمه على استعادة الحق. مقاربة تاريخية تكشف أوجه التشابه بين الجنود السودانيين في بارا، وبين الثوار في شيكان والأبيض؛ شجاعة لا تلين، استعداد للتضحية، ومراوغة ضد قوى غير متكافئة. الفرق أن اليوم الوسائل مختلفة، والمدن الصغيرة تمثل تحديًا أكبر للتنظيم والسيطرة.
VI
المدينة تستعيد أنفاسها من بين الركام، وكل زاوية فيها تحكي صدى الماضي. المزاج الاجتماعي للكردفانيات هنا متأرجح بين الفرح والخوف، بين التفاؤل والحذر. علاقتهن بالخرطوم والأبيض ليست مجرد روابط جغرافية، بل هي روابط ثقافية وسياسية، تربط بين جذور عميقة وأفق ممتد، وتخلق نصًا مجتمعيًا حيويًا، يشهد على قدرة النساء على صهر التاريخ في ذاكرة حيّة.
VII
بارا ليست مدينة فقط، بل حالة روحية، حالة مقاومة مستمرة. قوافل الدعم السريع لم تكتفِ بتهديد الأرض، بل حاولت تهديد الذاكرة، تهديد المستقبل، لكن الجيش السوداني أعاد كتابة النص، مزج بين الحاضر والماضي، بين الخطة العسكرية والحكمة المجتمعية.
VIII
تذكر النساء الحكايات القديمة عن المهدية، عن مقاومة الأبيض، عن شيكان، كيف صمدت المدن الصغيرة أمام جيوش أكبر وأقوى. اليوم، ينقلن تلك الحكايات إلى الحيّز الحديث، ليكون التحدي ليس مجرد حكاية عن حرب، بل درسًا في الشجاعة، في الصمود، في عودة المدينة إلى أهلها، في تحويل الألم إلى أمل.
IX
الأرض تئن تحت وطأة المعارك، ثم تنهض من جديد. صوت الطبول المفقودة يعود، وصوت الأسواق يعود إلى مكانه، لكن كل شيء تغير: المدارس تحمل دروس الصمود، الأزقة تحكي قصص الانتصار، المنازل تحمل آثار الخوف والأمل معًا، والنساء يعلمن أولادهن أن المدينة ليست مجرد مكان، بل ذاكرة جماعية يجب الحفاظ عليها.
X
الليمون هنا، في كل حديقة منزل، يرمز للفرح البسيط بعد الرعب الكبير. مذاقه حلو وحامض معًا، مثل الأيام التي عاشتها المدينة بين الحرب والسلام، بين الخوف والانتصار. إنه رمز محلي يجمع الحكاية الإنسانية مع الطابع الجغرافي، رابط بين الماضي والحاضر، بين الكردفانيات وذكرياتهن بين الأبيض وخرطوم.
XI
في استعادة بارا، تتجلى البنية الوطنية، كيف يمكن للقوة المنظمة أن تعيد بناء مجتمع، كيف يمكن للوعي الاجتماعي أن يقود الجهود العسكرية، كيف يمكن للنساء أن يكنّ محور الصمود، مركزًا للمراقبة، ومصدرًا للحكمة المجتمعية، بينما يسجل التاريخ المعارك كما يسجل النجوم في السماء.
XII
المدينة لم تعد مجرد جغرافيا، بل نص متكامل، نص يشهد على صمود الشعب، على تلاحم الجنود والمواطنين، على قدرة الإنسان في مواجهة قوى لا ترحم. مقارنة بمعارك المهدية، يظهر التطور في استخدام التكنولوجيا، في سرعة نقل القوات، في الذكاء الاستراتيجي، لكن الروح واحدة: إرادة المدينة، إرادة الإنسان، إرادة الكردفانيات اللواتي يحملن قلب بارا في صدورهن.
XIII
بارا تعود للحياة، والمدينة تبتسم بعد دماء كثيرة. كل زاوية، كل شارع، كل بستان ليمون، وكل بيت يحتضن ذكرى المعركة، وكل امرأة كردفانية تحمل بين ذراعيها قصة الصمود، كل ذلك يشكل ملحمة جديدة في سجل السودان. ندوة الأبيض، إذن، تكتب بارا كما تُكتب المدن الأخرى: نصًا حيًا، متنفسًا للحرية، ومسرحًا للذاكرة، حيث تتلاقى الحرب والتاريخ والحياة في نسيج واحد، طويل النفس، بلا نهاية واضحة، لكنه مليء بالأمل.
______
سبتمبر 2025م
الابيض - شمال كردفان

تعليقات
إرسال تعليق