ديوان : العودة إلى القضارف
العودة إلى القضارف
العودة إلى القضارف
7 أناشيد
________________
الكتاب : العودة إلى القضارف
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : سبتمبر 2025م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
_______________________
النشيد الأول :المقاصد
أُطلُّ من شرفة الجبل البعيد، فأرى الأرض كلها تتحوّل إلى قصيدة، تُخفي في صدرها مزيج الغابة والصحراء، وتتلو آيات النهوض كأنها صلاة جماعية. هناك، في انكسار الضوء على الحقول، يتكاثر المعنى، ويغدو كل ساقية نهرًا من المعجزات الصغيرة، وكل بيتٍ طينيٍّ مملكةً لا تغيب عنها الشمس.
ها أنذا أعودُ من منفى الروح، محمّلًا بظلال الغابة ووهج الصحراء، أستمع إلى ارتطام الأنهار الصغيرة في أودية القضارف، حيث ينبت الزرع كأحلام الطفولة، ويضيء الجبل البعيد كأنه مرآة الذاكرة. كنتُ صبيًا يطارد أسراب الطيور في السماء، ولا يعلم أن خلف الأفق تختبئ مدنٌ تحلم بالنهضة، وتتهيأ لأن تكون سلة الحياة، مرعى الخيول والجمال، وملاذ الزرّاع والتجار والنساء اللواتي يخبزن الحلم في مواقد الطين.
لم تكن المقاصد كلمات في دفتر الدولة، بل كانت دمًا يتدفق في عروق الفلاحين، كانوا يزرعون الأرض لا ليأكلوا وحدهم، بل ليبقى السودان كله على قيد الحياة. وكان الرعاة يتبعون أثر النجوم في الليالي الحالكة، ليصلوا بالقطعان إلى مراعٍ لا يجفُّ عشبها. وكان التجار يسافرون بأحمال البنّ والسمسم والصمغ، ليعيدوا إلى المدينة بهاءها المتجدد في الأسواق. كأنهم جميعًا يكتبون دستورًا غير مرئيّ، دستور النهضة والأمن الغذائي، دستور الولاء للأرض والإنسان.
وحين اندلعت الحرب، لم يتراجعوا. أقاموا المتاريس بالبنادق والدم، وصار أطفال المدارس يرفعون الشعارات كأنها أناشيد سماوية، وصارت النساء يخبئن العسكر في البيوت الطينية، ويحوّلن الخوف إلى طاقة مقاومة. كان الهدف واضحًا: أن تبقى المدينة حيّة، وأن تبقى سرة السودان النابضة بالقمح والذرة والفكرة.
أحلم الآن أن أعود إلى تلك الطفولة، حين كان صوت أمي يعلو في المطبخ مع حفيف الذرة المطحونة، وحين كان أبي يروي لي أساطير الأجداد: عن الرجل الذي صعد إلى قمة جبل تواو ورأى من هناك مدينةً من نور، وعن المرأة التي خبأت ماء السماء في جرة طين كي لا يعطش الأطفال. تلك الحكايات صارت اليوم بوصلةً لمقاصدنا الكبرى، الغايات التي لا تموت.
إن مقاصد القضارف ليست في الطموح وحده، بل في البعث الجمعي: أن يتحول الفرد إلى جماعة، وأن تنفتح الجماعة إلى وطنٍ واسعٍ، وأن يصير الوطن قصيدةً خضراء تكتبها سنابل القمح وهي تتمايل في الريح. هكذا يتوحّد الحلم الفردي مع الحلم العام، فيعود الشاعر من منفاه ليجد نفسه جزءًا من نهرٍ أكبر، نهرٍ يشقّ الطريق بين الغابة والصحراء، بين الحرب والنهضة، بين الموت والبعث.
هكذا تُكتب المقاصد: في الدم الذي يزرع الأرض، في الأمل الذي يشيد المصانع، في الطيور التي تحمل رسائل الفلاحين إلى السماء. ومن هناك، من السماء، يعود صدى النشيد، نشيد المقاصد، ليقول: هذه المدينة قدرها أن تبقى، وأن تكون، وأن تفتح أبوابها للغد.
النشيد الثاني :الإستلاب
ها هي المدينة تفتح عينيها من جديد، كأنها تخلع عنها جلودًا عتيقة لبستها في زمنٍ من القهر. لم تعد المرآة تعكس وجوهًا مستعارة ولا أقنعة تُباع في الأسواق، بل صارت وجوه الناس عاريةً بصدقها، عائدةً إلى ملامحها الأولى. التحرر يبدأ من الهمس الداخلي، من لحظةٍ يرفض فيها القلب أن يطيع صوتًا غريبًا، ويصرّ على أن يسمع موسيقى الطبول القديمة من جديد.
في الشوارع يتبدد صدى الخطابات المعلبة، تتفكك الكلمات التي حُشرت في الأفواه، ويعود الناس إلى لغاتهم الأصلية، إلى أصواتهم التي لا تُشبه سواهم. لم يعد الكلام مرهونًا بوصاية خارجية، بل صار ينبت من التراب، من التجربة المباشرة، من الدم والعرق، من الفرح والموت. اللغة حين تتحرر، تعود حية، تتجول بين البيوت كعصافيرٍ ترفض القفص.
في الأسواق تزيح السلعُ المحلية نظيراتها المستوردة، ليس لأن الأثمان أقل، بل لأن الطعم أكثر صدقًا. الذرة والسمسم والفول تعود إلى مقامها كطعامٍ للروح لا مجرد سلعة. الخبز الذي يصنعه المزارع بيديه له رائحةُ الحرية، رائحةُ الأرض التي لم تعد تنتظر إذنًا من أحد لتثمر. التحرر إذن ليس شعارًا، بل لقمة خبزٍ تؤكل بطمأنينةٍ كاملة.
تسترد المرأة دورها الأول، لا كظلٍّ في إعلانٍ غريب، بل كقلبٍ نابض للبيت والمدينة. تعود أصواتها في أغاني الحصاد لتعلو على الضوضاء المصطنعة، وتعود أيديها لتخطّ النقوش على الأقمشة بذاكرة الأجداد. جسدها لم يعد أداةً لعرضٍ مستورد، بل صار مرةً أخرى معبرًا بين الأرض والحياة، بين الحلم والولادة.
في المدارس، يقرأ الأطفال تاريخ مدينتهم، لا تواريخ الآخرين. يدرسون الجغرافيا كمن يرسم خريطة بيتٍ يعرفه، لا كمن يحفظ أسماء بلا معنى. المعلمون يتحدثون عن معارك الناس، عن الأساطير التي خرجت من جبل تواو، عن الطيور التي رافقت القوافل. التعليم حين يتحرر يصير ذاكرةً جماعية، جسرًا بين الماضي والمستقبل، لا آلةً لإنتاج نسخٍ متشابهة.
في الليل، حين تقترب الحرب من أسوار المدينة، يسمع الجنود أصواتًا جديدةً في صدورهم. لم يعودوا ينتظرون أوامر غريبة ولا قياداتٍ تستورد شعاراتها من وراء الحدود. القتال يصبح دفاعًا عن البيت لا عن مصالح الآخرين. حتى السلاح يبدو مختلفًا حين يُحمل باسم الأرض، لا باسم وصايةٍ أجنبية.
الموسيقى تتغير أيضًا. تختفي الألحان المكرورة التي تسافر عبر الشاشات، وتظهر إيقاعاتٌ تعود إلى الطبول القديمة وإلى النايات البعيدة. الموسيقى هنا ليست ترفيهًا، بل إعلان حياة، مقاومة صافية ضد الاستحواذ، ضد كل ما حاول أن يصادر الإحساس بالزمن والذات.
المدينة تتحرر حين تنظر إلى نفسها بعينين لا تخجلان. العمارات تُبنى بما يناسب المناخ والتربة، لا بما يُملى من خرائط الشركات. البيوت تستعيد علاقتها بالطين والماء، تستعيد الظلال التي تحميها من حرارة الشمس. حتى العمارة تصير فعل هوية، لا استنساخًا لنماذج غريبة.
والأرض، التي استُنزفت طويلًا، تبدأ في التنفس. المزارعون يعودون إلى طرق الزراعة التي تحفظ خصوبتها، لا إلى السموم التي جلبتها الشركات. الأرض حين تتحرر، تُثمر بكرامة، وتمنح الطعام الذي يشبه الناس، لا الطعام المصنّع على مقاس الأسواق العالمية.
التحرر لا يعني القطيعة، بل يعني أن يكون الحوار متكافئًا. أن تلتقي القضارف مع العالم لا بوصفها تابعًا، بل بوصفها كيانًا له ما يعطي بقدر ما يأخذ. العالم هنا ليس سيدًا ولا وصيًا، بل شريكًا على مسافة الندية. التحرر إذن هو استعادة الحق في أن نقول: نحن هنا، كما نحن، بلا وساطة.
وفي النهاية، يظل التحرر فعلًا داخليًا قبل أن يكون خارجيًا. أن تتحرر المدينة يعني أن يتحرر أبناؤها من الخوف، أن يستعيدوا إيمانهم بأنفسهم، أن يكتبوا قصائدهم بلغتهم، أن يزرعوا أرضهم بعرقهم، أن يموتوا دفاعًا عن خبزهم ومائهم. عندها فقط تنكسر سلاسل الاستحواذ والتبعية، وتبقى المدينة حرةً في صوتها، في صورتها، في جوهرها، كما وُلدت أول مرة.
النشيد الثالث :الاغتراب
أرى نفسي أتنفس في أزقة لا أعرفها، وأسماء مدن بعيدة تتكرر على شفاه الناس بينما قريتي الصغيرة تختنق في طيني، تبحث عن صوتي الذي سُلب مني. في كل زاوية من المدينة الجامعية الجديدة، أسمع همسات الطلاب الذين يقرأون لغات لا تعكس وجهي، ويكتبون مقالات عن حضارة لم تطأ قدماي أرضها. هناك، في قاعات الدراسة، يضيع الشاعر كما يضيع الفلاح في مساحات الحقل، يبحث عن وجه يلتقيه، عن صورة تعيد له ذاته.
أشعر بالاغتراب حين أطوف الأسواق وأرى الوجوه مألوفة، لكن المكان غريب: رائحة الذرة والسمسم لا تشبه ما كانت عليه، وجميع الخطوات على الأرض الطينية تتردد بلا صدى. المدينة نفسها تتحدث لغة مزدوجة: لغة الصمود، ولغة الفقد. والسماء تتدلى فوقي كلوحة باهتة، تحمل طيورًا هاجرة لا تعرف اسمها، تتذكر أجنحتها قصصًا قديمة عن الأمن الغذائي والحرب والسلام، عن مقاصد لم تتحقق بعد.
أحلم بالعودة إلى الضفة القديمة للنيل، حيث لعبت كطفل بين النخيل، وحيث كانت الجبال مثل حراس أحياء. لكن الغربة تكبر معي: كل باب يُفتح يُغلق عليّ بسرعة، وكل جسر أعبُره ينهار خلفي. أرى الطلاب في مختبرات العلوم، يزرعون المعرفة كما أزرع الزرع، لكن دون جذور في أرضي، دون خيط يربطني بتاريخ هذه المدينة.
في الليل، أقف على سطح بيت قديم، أرى أضواء الجامعة تتلألأ في البعيد، وأتساءل عن نفسي: هل أنا ابن المدينة أم غريب فيها؟ هل أحمل هويتها في دمي، أم أنني مجرد ظل يراقبها من بعيد؟ الريح تمر بين أزقة القضارف، تحمل أصواتًا مألوفة، لكنها مبتورة، وكأن المدينة نفسها تُسجن في قصة لم تُكتب بعد، وأجسادنا معًا تتقاطع مع الزمن بلا مكان ثابت.
أرى في الاغتراب انعكاسًا لحلمي الفردي: أن أعيش في مكان أستطيع أن أنتمي إليه، أن أسمع صوتي يُسمع في صدى المدينة، وأن كل جسر، كل شارع، كل نافذة، تحمل شارةً تؤكد أنني هنا، وأن الأرض تعرفني. لكن الواقع مختلف: المدينة تُعيد تعريفك في كل لحظة، وتحولك إلى زائر دائم، تبحث عن نفسك بين الساحات والحدائق، بين قاعات الجامعة والأسواق، بين الغابة والصحراء.
أحمل ذكريات الطفولة معي، كحزام أمان يثبتني في الزلازل: رائحة الطين بعد المطر، حفيف الذرة في الحقول، صوت أمي وهي تنشد حكايات الأجداد. كل هذه الصور تتكسر في المدينة الجامعية، تتحول إلى فسيفساء لا تعكس وجهي إلا جزئيًا، وتظل هناك فجوة واسعة من الفراغ، فراغ الاغتراب الذي يلتهم كل لحظة حية، ويترك الإنسان كطيف بين الجبال والأنهار والأضواء الصناعية.
الاغتراب ليس هروبًا، بل شعور عميق بالانفصال عن جذورك، عن حكاياتك، عن المدينة التي تحبها. كل مشروع تنمية، كل خطة صناعية، كل فصل دراسي في الجامعة، يذكّرني بأنني غريب عن كل شيء وأني جزء من كل شيء في الوقت نفسه، كأنني أعيش في حلم جماعي لكنه حقيقي، كأن المدينة الجامعية الجديدة تضغط على قلبي وتعلّمني كيف أكون نفسي بين الناس والأرقام، بين الأمل والخوف.
ورغم كل ذلك، يولد فيّ وعي صامت: أن الغربة تعلم الصبر، وأن الاغتراب يجعل العودة أكثر وضوحًا، وأن كل شارعٍ غريب، وكل طالبٍ مجهول، وكل كتاب يُقرأ دون فهمي الكامل، كلها تفتح أمامي طرقًا للوعي، لخلق مكان لي بين الغابة والصحراء، بين الماضي والمستقبل، بين الذات والمدينة.
أرى في الاغتراب انعكاسًا للمدينة نفسها: بين النهضة والخراب، بين الحرب والسلام، بين الرعي والزراعة، بين التجارة والصناعة، بين الجسد والفكرة. المدينة تغرب عن نفسها أحيانًا، وتتركنا نتخبط، لكنها في صمتها تعلمنا كيف نرى، كيف نكون، وكيف نحلم معًا بما سنستعيده يومًا.
في النهاية، الاغتراب ليس مجرد ألم، بل حالة ولادة: ولادة فهم أعمق للمدينة، وللذات، وللعلاقة بينهما. في لحظة كهذه، يصبح الشاعر والجماعة واحدًا، والمدينة الجامعية والحقول القديمة جسدًا واحدًا، والبعث الذي طال انتظاره يتحقق تدريجيًا، صامتًا، كنسيم يمر بين الغابة والصحراء، يعلن بداية رحلة جديدة نحو النهضة.
النشيد الرابع :النهضة
تنهض القضارف كحلم أخير، من رماد الغربة والاستلاب، تتنفس نهارها الأول كأنها كائن حي، يطل على السهل والأنهار والجبال، يلوح من بعيد جبل تواو كأنه علامة على البداية. أسير في الشوارع المعبدة حديثًا، أسمع صدى أقدام الطلاب، أصوات الأساتذة، صرير الدراجات والجرارات، وأدرك أن النهضة ليست شعارات، بل نبض حقيقي يمر في عروق المدينة.
الجامعة الجديدة تمثل قلب النهضة: قاعات مليئة بالعلم، مكتبات تتوهج بالأفكار، مختبرات تخلق الواقع من الحلم، وطلاب يشبهون النخيل في ارتفاعهم ومرونتهم. كل مشروع زراعي، كل مزرعة جديدة، كل مصنع صغير يولد طاقة لا تُرى، لكنه ملموس في الأرض والهواء والمطر. المدينة تتعلم كيف تتحدث لغة الإنتاج والابتكار، وتنسج بين الرعي والزراعة، بين التجارة والصناعة، حكاية استمرارية لا تنكسر.
أرى الأطفال يلعبون في الحدائق، في حديقة الورود الأخيرة، كل زهرة فيها تحمل وعدًا: أن الحياة ممكنة، وأن النهضة ليست بعيدة، وأن المدينة يمكنها أن تصبح حاضنة للأحلام كما هي حاضنة للقمح والذرة. الريح تمر بين الأشجار، تحمل أصوات الرعاة من البعيد، تذكّرنا أن الطبيعة والشعب شريكان في النهضة، وأن كل قطرة عرق تُسقط على الأرض، تزرع أملًا جديدًا.
في الأسواق، يلتقي القديم بالجديد: الباعة يبيعون الخضار والسمسم، التجار يتفاوضون على الصفقات، بينما يتعلم الأطفال قيمة العمل والتعاون. المدينة تغدو مسرحًا للحياة اليومية والإنجاز الجماعي، والحرب لم تعد مجرد تهديد، بل امتحان حقيقي لصمود الإنسان أمام كل تحدٍ. هنا يتجسد البعث الجمعي، وحيث يمتزج حلم الفرد بحلم المدينة، تتحول القضارف إلى نموذج صامت للتجربة الحضارية.
في المساء، تتوهج أضواء المصانع الصغيرة، ويعلو صوت الشباب وهم يحاكون الطيور في المراعي، كل صوت صدى للنهضة في الأفق، كل حركة تؤكد أن المدينة تتنفس من جديد، وأن الإنسان والمدينة متشابكان، كل منهما يمد الآخر بالقوة، بالوعي، بالأمل. أسير بين الأزقة القديمة والجديدة، أرى الماضي يتماهى مع الحاضر، وأساطير الطفولة تتجدد في كل خطوة، كأنها قصائد حية، تكتبها الأقدام على التراب والمعدن والزجاج.
الحياة الجامعية، الأسواق، الحقول، المصانع، كل هذا يشكل فسيفساء النهضة: ليس مجرد إنتاج للغذاء والسلع، بل إنتاج للمعنى والهوية. المدينة تعيد تعريف نفسها، لا كمدينة سلع، بل كمدينة أحلام، كمدينة تستوعب كل من هاجر أو ضاع، كمدينة تعيد للإنسان مكانه بين الغابة والصحراء، بين الماضي والمستقبل، بين الذات والجماعة.
وفي قلب النهضة يولد وعي جديد: أن البعث ليس حدثًا واحدًا، بل سلسلة من الأفعال الصغيرة، من القرارات الصامتة، من الجهود اليومية. أن مقاومة الحرب لا تقل أهمية عن بناء المدارس، وأن معرفة الطلاب في الجامعة مساوية لمعرفة الفلاح في الحقل، وأن كل مشروع، مهما صغر، هو حجر أساس في صرح النهضة.
أرى الشاعر نفسه في هذا الفعل الجمعي: هو جزء من المدينة، والمدينة جزء منه. كل فكرة يكتبها، كل قصيدة، كل رحلة إلى حديقة الورود، كل زيارة إلى جبل تواو، تضيف خيطًا إلى شبكة النهضة. المدينة لم تعد مجرد مسرح، بل أصبحت نصًا حيًا، يتحرك، يتنفس، يكتب نفسه بنفسه.
إن النهضة هي لحظة التلاقي بين الفرد والجماعة، بين الطموح والواقع، بين الغابة والصحراء، بين الحرب والسلام، بين الطين والمعدن والمصابيح. المدينة تتفتح مثل زهرة، وكل زهرة تحمل وعدًا بأن النهضة ليست حلمًا بعيدًا، بل فعل مستمر، ضوء يمر عبر كل شيء، وصوت ينادي: "ها نحن، ها الأرض، ها الإنسان."
وفي النهاية، كل خطوة على أرض القضارف، كل صوت، كل حركة، كل ابتسامة طفل، كل كتاب يُقرأ في الجامعة، كل محصول يُحصد من الحقول، كلها تدل على أن النهضة ليست نظرية، بل وجود حي، فعل يومي، وعد بالاستمرار، وبأن المدينة ستظل تشرق، رغم كل العواصف، رغم كل الغياب، رغم كل الحرب، كمدينة قادرة على خلق نفسها من جديد في كل صباح.
النشيد الخامس :النكوص
المدينة تتراجع أمامي كظل ثقيل، تتلوى في الطرقات القديمة، وتنهار أجزاء من الحلم الذي بنيناه بأيدينا. أسير بين الحقول والجرارات متوقفة، والأسواق خاوية، وكأن الأصوات التي رفعت النهضة قد صمتت فجأة. كل زاوية تحمل آثار الخسارة: جدران مشققة، طرق مقطوعة، وحياةً تترنح بين البقاء والغياب.
أرى الطلاب في الجامعة يحملون كتبهم بلا حماس، والمكتبات التي كانت تتوهج بالمعرفة صارت صامتة، القاعات تفرغت من الأصوات، كأن العقل نفسه يعاني من النكوص. كل مشروع صناعي توقف، كل مزرعة تتقادم دون رعاية، وكل حلم جماعي ينهار تحت وطأة الفساد والبيروقراطية والخيبات المتراكمة.
أشعر بالوجوه الضائعة في الأسواق: الباعة الذين كانوا يصرخون بالأمل، صاروا يبيعون بصمت، والنساء اللواتي خبزن المستقبل في أيديهن صار يختنقن في الانتظار، والأطفال الذين كانوا يلعبون في حدائق الورود، صاروا يتعلمون الانكسار قبل أن يعرفوا معنى القوة. النكوص يمر كريح حارقة، يترك وراءه رمادًا يعلّق في عروق الإنسان، يحرق ذاكرته، ويصيب القلب بالبرودة.
في المساء، أرى الجبال والأودية وكأنها تبكي، النهر يتباطأ في مجراه، الأشجار تُذبل قبل أوانها، والسماء تمطر على المدينة ألوانًا باهتة. حتى جبل تواو يبدو خائفًا، كأنه يعرف أن النهضة ليست ثابتة، وأن التراجع جزء من دورة الحياة، وأن الإنسان مهما صمد، لا ينجو دائمًا من الانكسار.
أرى الحروب تتسلل مرة أخرى إلى أفق المدينة، أرى الجنود في الطرقات، ورجال الاستخبارات يراقبون الصمت. كل شيء يتحول إلى امتحان جديد: صمود المواطن، صبر الطالب، قدرة الشاعر على الاحتفاظ بصوته. النكوص ليس مجرد حدث، بل اختبار وجودي، يفرض علينا أن نعيد النظر في علاقتنا بالأرض، بالمدينة، بالحلم نفسه.
في قلب النكوص يولد شعور مزدوج: ألم عميق بسبب فقدان ما تحقق، وإصرار خفي على الصمود. المدينة تنهار أمام أعيننا، لكنها لا تموت، كل جدار مشقوق، كل شارع محطم، كل بستان مهجور، يحمل إمكانية البعث مجددًا، لكنه يطلب منا أن نقرأ العلامات، أن نتعلم من الخسارة، أن نعيد بناء الصوت والصورة والهوية.
أرى في النكوص انعكاسًا لحياة الإنسان: كل خطوة للأمام تتبعها خطوة للخلف، كل ابتسامة صافية تختلط بها دمعة، كل مشروع يولد مع صراع، وكل حلم يتحقق بعد معركة. المدينة تعكس كل هذه المتناقضات، تكتبها في الأرض وفي الهواء، وتتركنا نحن البشر أمام خيار: الاستسلام أم المقاومة.
حتى الأساطير القديمة تُعيد نفسها في هذه اللحظة: تمساح البحيرة في جبل قنا، الشيخ الذي يوقف المطر، الطيور التي تحمل رسائل الغابة والصحراء، كلها تذكّرنا أن النكوص مؤقت، وأن الوقت هو الذي يعيد الأحياء إلى الأرض، ويعيد الضوء إلى الحقول والمكتبات والطرق.
النكوص يعلمنا الصبر، يعلمنا كيف نحافظ على المقاصد في وجه الانكسارات، كيف نزرع الأمل بين الأطلال، كيف نستعيد صوتنا عندما يختفي. المدينة نفسها تتعلم هذا الدرس: أن التراجع ليس نهاية الطريق، بل مرحلة لازم أن تمر قبل أن يشرق الفجر من جديد، قبل أن تصحو الروح، قبل أن تبدأ النهضة التالية.
في النهاية، النكوص ليس مجرد فقدان، بل هو رحلة داخل الذات والمدينة معًا: لحظة تأمل في حدود القوة، لحظة معرفة للغربة الداخلية، لحظة استعداد للثورة القادمة. كل جدار متصدع، كل شارع مهجور، كل ظل في الأسواق، كل همسة في الجامعة، كل دمعة على الحقول، كلها تحفّز الشاعر والمدينة على البحث عن ضوء جديد، عن بداية أخرى، عن نهضة أخرى، عن يقظة قادمة.
النشيد السادس :الثورة
المدينة تتوهج فجأة، كجسم بركاني يثور، أصوات الناس تتقاطع، تصرخ، تهتف، تتحرك، تهدم الجدران الصامتة، تهدم الظلال التي كانت تكبت النهضة. كل شارع يصبح مسرحًا للفعل، كل ساحة تتحول إلى قلب نابض، والمدينة بأكملها تتنفس ككائن حي ثائر، يحمل طاقة لا تقهر، طاقة الشعوب التي عرفت الانكسار وأبت الاستسلام.
أرى الطلاب في الجامعة يقودون المسيرات، يحملون الكتب والأعلام، يرددون كلمات الحق والعدالة، كل صوت منهم يتحول إلى موجة تهز المدينة، ترفع الغبار عن التاريخ المظلم، تكسر قيود الخوف، وتعلن أن المدينة ليست ملكًا للخاسرين، بل ملك للذين يطالبون بحقهم في الحياة، في الأرض، في المعرفة.
الأسواق تُعيد الحياة نفسها بقوة جديدة، الباعة يصرخون بأصوات أعلى، النساء يخرجن من البيوت حاملات الطعام والرسائل، الرعاة يسابقون الريح مع قطعانهم، الجنود الذين كانوا يشاهدون صمت المدينة، يجدون أن الصوت الجماعي أصبح أعلى من كل قوة. الثورة ليست صخبًا فحسب، بل فعل حياة، دم يجري في العروق، حلم يُترجم إلى حركة ملموسة على الأرض.
أرى المصانع الصغيرة تعود للعمل، حركات الأيدي في الحقول تعكس الإرادة نفسها، كل بذرة تُزرع هي إعلان عن الثورة، كل حبة قمح تُسقى هي تعبير عن صمود الإنسان أمام كل ظلم، كل انسحاب، كل انهيار. المدينة بأكملها تتحول إلى نص حي، نص يُكتب الآن بفعل الجماعة، وبعزم الشاعر الذي يعيد صياغة صوته مع كل خطوة على الأرض.
في الليل، تتوهج أضواء المصابيح في الأزقة، تشبه النجوم التي تراقب الفاعلين، تراقب القوة التي تنبثق من الجماعة، القوة التي تجعل الماضي حافزًا، والحاضر منصة، والمستقبل وعدًا. الأساطير القديمة تنبض بالحياة من جديد: تمساح البحيرة يتحرك في الخيال، الجبل يحرس المدينة، الطيور تهب الريح لتحمل الرسائل، وكل رمز يُستعاد ليصبح جزءًا من الثورة اليومية.
أرى في الشوارع ألوانًا متداخلة: الدم، التراب، الغبار، الأعلام، والكتب، كلها تكتب على الجدران والأرصفة قصص الانتصار، قصص التيه والعودة، قصص الذين قاوموا الصمت. الثورة هي لحظة استعادة الذات والمدينة معًا، لحظة تخلق فيها كل زاوية معنى جديدًا، كل نافذة صوتًا جديدًا، كل شارع فرصة لإعادة بناء الهوية.
الشاعر يقف في قلب هذا الحدث، ليس مراقبًا، بل فاعلًا، كل كلمة يكتبها، كل قصيدة، كل لحظة تأمل، تتحول إلى سلاح، إلى شعاع يضيء الطريق بين الماضي والحاضر، بين الانكسار والبعث، بين الغابة والصحراء، بين الفرد والجماعة. الثورة هي فعل مزدوج: داخلي وخارجي، روحي ومادي، شخصي وجماعي، وكل لحظة فيها تضيف طبقة إلى النسيج الحي للمدينة.
أرى الأطفال يركضون بين الصفوف، يتعلمون القوة والحق، يتعلمون أن الصوت الواحد لا يكفي، وأن الجماعة هي التي تكتب التاريخ. أرى النساء يحملن المشاعل على الطرقات، ويعلمن الأجيال أن الفعل لا يقتصر على الذكور، وأن المدينة بأكملها هي ميدان للجميع، لكل من يؤمن بالحق، بالعدالة، بالحرية.
الجبال والأنهار تتنفس الثورة مع البشر، النيل يعكس ألوان الحركة، جبل تواو يشهد على الولادة الجديدة للمدينة، الطيور تحمل أخبار التغيير إلى الغابة والصحراء، كل شيء في الطبيعة يشهد على أن الثورة ليست حدثًا عابرًا، بل حالة وجودية، فعل مستمر، نبض جماعي يترجم المعنى إلى الحياة.
في النهاية، الثورة هي صوت المدينة وهي تستعيد نفسها، هي القوة التي ترفع الإنسان من رماد الانكسار، هي الضوء الذي يسبق النهضة التالية، هي إعلان أن كل جهد، كل دمعة، كل فكرة، كل خطوة، كلها تحمل رسالة واحدة: أن القضارف حية، وأن الإنسان قادر على صنع ذاته، وأن الحلم يمكن أن يصبح واقعًا حين يتحد الفرد والجماعة مع الأرض والسماء معًا.
النشيد السابع :اليقظة
أستيقظ على المدينة وهي تتنفس نورًا جديدًا، كل شارع ينبض بالوعي، كل نافذة تحمل بريق المستقبل، كل زاوية تحكي قصة عن البقاء، عن الحلم، عن الإنسان الذي يرفض أن يكون ظلًا في أرضه. القضارف تعود لنفسها، والجبال والأنهار تشهد على استعادة التاريخ، وعلى حضور المدينة في الزمن، على امتداد الغابة والصحراء، على قدرة الإنسان أن يرى نفسه بوضوح بعد كل عبور.
الجامعة تعود لتكون قلب المدينة النابض، المكتبات تتوهج بالكتب التي تعكس الأرض والإنسان، القاعات تترجم الصوت الفردي والجماعي، الطلاب يتنفسون المعرفة والوعي، كل خطوة لهم على الأرض تشبه حركة النهر، تتقاطع مع حركة الرياح، تتسلق الجبال، تتلمس الطريق إلى البحر. اليقظة هنا هي وعي شامل، تتجمع فيه كل الانكسارات والنهضات، كل الحروب والسلام، كل البذور التي زرعها الأجداد.
في الأسواق، أرى وجوه الناس واضحة، أصواتهم صافية، حركة أيديهم تحمل خبرة الأرض والزرع والتجارة، لا ضياع ولا خوف، كل بائع يحمل ثقافة المدينة في قلبه، كل مشتري يعرف أنه جزء من هذه الحياة، كل حوار بين الناس يصنع نصًا حيًا، نصًّا متجددًا للهوية، للمعنى، للوعي الذي يربط الفرد بالجماعة، والجماعة بالأرض والسماء معًا.
أرى الأطفال يلعبون في حدائق الورود كما لو كانوا يعرفون سر الحياة، يعلمون أن كل زهرة تحمل درسًا عن القوة، عن الصمود، عن القدرة على إعادة البناء بعد كل انهيار. النساء يحملن الماء والأمل، الرجال يحملون الأرض والقرار، وكل كائن في المدينة يتنفس جزءًا من اليقظة، كل حجر على الطريق، كل جدول ماء، كل جدار قديم، وكل نافذة مفتوحة، كل شيء يشهد على أن المدينة صارت أكثر وضوحًا وأكثر قدرة على أن تكون نفسها.
الأساطير القديمة تعود لتقف معنا: تمساح البحيرة يسبح في خيالنا، الجبل يحرس المدينة، الطيور تحلق لتخبرنا أن كل لحظة من الماضي لها قيمة، أن كل تجربة كانت ضرورية، أن كل فشل وكل انتصار كان جزءًا من نص المدينة، وأن اليقظة هي القدرة على قراءة هذا النص، وفهمه، واستخدامه لبناء المستقبل.
أرى الشاعر في قلب هذه اليقظة: لا مجرد مراقب، بل صانع، كاتب، واعٍ لكل حركة وكل نبضة في المدينة، كل كلمة يكتبها تتماهى مع نبض الحقول، مع حركة الأسواق، مع صدى أصوات الطلاب، مع صرير المصانع، مع حركة الطيور، مع صوت الرياح بين الأشجار. هو جزء من المدينة، والمدينة جزء منه، وكل فعل فردي يصبح فعلًا جماعيًا، وكل صمت يُعاد تحويله إلى صوت.
في النهاية، اليقظة ليست مجرد لحظة صحو، بل حالة وجود مستمرة، لحظة امتداد لكل ما سبق: المقاصد، الاستلاب، الاغتراب، النهضة، النكوص، الثورة. المدينة والشاعر والحقول والأساطير والجبل والأنهار، كلهم يتحدون ليخلقوا فضاءً للمعنى، للهوية، للوعي، للحياة. وفي هذا الصحو، تصبح القضارف رمزًا للقدرة على أن يكون الإنسان حاضرًا، أن يكون الأرض حية، أن يكون الحلم مستمرًا، وأن يكون المستقبل ملكًا لكل من صمد، لكل من أحب، لكل من استيقظ.
____
سبتمبر 2025م
حي العباسية - القضارف



تعليقات
إرسال تعليق