ديوان : نمور الصحراء

 نمور الصحراء

مصعب الرمادي

نمور الصحراء 

________________

الكتاب :  نمور الصحراء

الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : سبتمبر 2025م

حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
_______________________

ترتيبات
I

هي الأصابع العارية التي تحوك الخريطة بالرمل، ليس رصداً للنجوم بل لنزيف الجهات.
في  مدينة " الدبّة" بالولاية الشمالية ينام النيل ثقيلاً على كفّيّه، ويستفيق على رنين العجلات الناعسة.  إنها ترتيبات لـموت لم  يكتمل، أو لـميلاد يُؤجل. الرمال تُسجَّر بالرغبة.
ثمانية آلاف عين، لا ترى سوى وجه الفاشر النائي كـوعدٍ مصلوبٍ على الأفق.
البوصلة ليست إبرة، بل قلبٌ يرتجف تحت وطأة الزيت والشحم والبارود المُعتَّق.
النمرُ هنا ليس وحشاً، بل استعارة للحقيقة تُزحف.
الوطنُ شقوقٌ في جلد الأرض، ونحنُ قُصاصاتُ الحلم التي تُحاول وصلها.
الليلُ سياطُ العتمة، والأمرُ ليس تحركاً، بل انتزاعُ الشمس من فكيّ الغياب.

II
في السرّاديب، تُعدّ حصصُ العزلة للجندي الذي فقد ظلّه في الخرطوم.
يُصقَلُ المعدنُ بـ سُعال البنادق القديمة، وكلُّ دبابة ليستْ سوى تابوتٍ مؤجل.
يُحشى العتادُ بـ الأسئلة الوجودية: هل نذهبُ لنعيدَ وطناً، أم لـ نضيّعَ أنفسنا نهائياً؟
القيادةُ: همسُ عقيدٍ أُرهقتهُ رائحةُ الياسمين الذي لم يعد يزهرُ في الجزيرة.
نحنُ الذاكرةُ المترجمة إلى وقودٍ ودم.
يُدربون على نسيان اللحظة التي سيُطلقون فيها الرصاص على إخوتهم.
الترتيب الأول: إلغاءُ القلبِ لكي يتّسعَ لـ جغرافيا الجُرحِ.
الجنودُ أشباحٌ مُعلَّبة، ينتظرون فوهةَ الشمسِ لتُحرِّرَ أرواحهم.

III
الكابوسُ الرسميُّ: أن نصلَ إلى دارفور ونجدَ الصحراءَ قد ابتلعتْ كلَّ شيء، حتى القتال. 

النمورُ تُراقبُ النجمَ القطبيَّ المُشوّهَ بـ دُخانِ الحرائق البطيئة.
الترتيب الثاني: وضعُ الأماني في حقائبَ مُحكمة الإغلاق، لئلا تتسربَ وتُفسِدَ مهمّةَ الموت.
في الصباح، طُبولُ الهذيان تضربُ على بُعدِ أميال.
الصحراءُ تُعلنُ عن مؤتمرها الأبديّ للترابِ والصمت.
الأمهاتُ في الدبّة يُطلقنَ الزغاريد؛ لا فرحاً، بل لـ إجبارِ القدرِ على التراجع.
هذا المتّسعُ العسكريُّ ليس خطةً، بل روايةٌ غيرُ مكتملة تُكتبُ بالدم.
كلُّ إطارٍ يدورُ هو نُدبةٌ جديدة على وجهِ التاريخ السودانيّ المُتعَب.

IV
المؤنُ لا تكفي لـإشباعِ الشكِّ الذي ينهشُ يقينهم.
الحكمةُ العسكريةُ: أن تجعلَ من خوفِكَ بندقيةً إضافية.
الطريقُ من الدبّة إلى الفاشر ليس مسافةً، بل تاريخٌ يتمُّ اجتراحهُ بالقوة.
هذا ليسَ جسداً يتحركُ، بل جدارٌ من اليأس يتخذُ شكلَ قافلة.
تتوزعُ جرعاتُ الذاكرة؛ صورُ الخرطوم القديمة، رائحةُ الترابِ المُبلَّلِ بالمطر الأول.
ترتيبٌ أخير: قبلَ النومِ الأبديّ، لا تنسَ هويتكَ الرملية.
الجنديّ رقم (٤٢) يُحدّثُ دبابتهُ عن حبيبةٍ في المهدية تنتظرُ رجلاً ليس هو.
على متنِ شاحنةِ الإمداد، الخبزُ يتبادلُ الهوية مع الصخرِ لشدةِ صلابتهما.

V

هنا، الحركةُ صلاةٌ جديدة تُؤدَّى بالزحفِ على خطوطِ الطولِ الوهميّة.
نمورُ الصحراء ليسوا جيشاً، بل مجموعةُ أشخاصٍ يهربون من صورةِ أنفسهم القديمة.
الـ "نوبة" الليلية ليست حراسة، بل تدريبٌ على تقبُّلِ الفراغ.
يتمزقُ الحنينُ لـ النيل تحتَ حرارةِ الإطارات التي تلتهمُ الأفق.
الترتيب الثالث: كلُّ قطرةِ عرقٍ هي وثيقةُ تمليكٍ جديدة لـ هذا التراب المُنكَر.
الشمسُ في هذه البلادِ ليست كوكباً، بل قذيفةٌ صفراء مُعلَّقةٌ بلا مُطلق.
يَعبُرونَ مدنَ الظلّ التي لم يذكرها التاريخُ، ويستمدون منها عنادَ البقاء.
ما بينَ الدبّة والفاشر، ملحمةٌ تتشظّى؛ لا بطلَ لها، فقط ناجون وشهود.

VI
مذياعٌ قديمٌ يُبثُّ فيه صوتُ امرأةٍ تغني عن القمحِ؛ وهو أثمنُ من الرصاصِ الآن.
الجنديُّ الذي يحملُ اسطوانةَ غاز، يحملُ معها وهمَ العائلة التي ستطبخُ له طعاماً.
الكلماتُ هنا تُصبحُ شظايا حجرية، لا تُستخدمُ للنطقِ، بل للقذف.
ترتيبُ الغموض: كلَّما اقتربوا من الهدف، تضاعفتْ أسبابُ القتالِ الوجودية.
هل نُقاتلُ من أجلِ خيمةٍ في الصحراء، أم من أجلِ استعادةِ معنى الوطنِ الأبويّ؟
الأسرارُ تُودعُ في زجاجاتِ المياهِ الفارغة، وتُدفنُ تحتَ عجلاتِ المدرعات.
تخرجُ الأفاعي لـ تُحيّيَ المتحركَ؛ هي أيضاً تبحثُ عن إيقاعِ الحياةِ الجديد.
الصحراءُ تبتسمُ بـ أسنانها الرملية، وتقولُ: "كلُّ من عَبَرني، سيعودُ إليّ ذرات".

VII
الطريقُ لا ينتهي، بل ينفجرُ إلى مساراتٍ لا يعرفُها سوى الهواءُ الساخرُ المُحمَّلُ بالملح.
الترتيب الرابع: أن تعتقدَ أنكَ تُقاتلُ شيئاً مريراً، بينما أنتَ تُقاتلُ صورتكَ في المرآةِ العسكريّة.
جنودٌ يتبادلون القصصَ القديمةَ لـ محاولةِ تحنيطِ الزمنِ الهارب.
على حافةِ الغروب، يبدو كلُّ واحدٍ منهم تمثالاً مُصمتاً لـ خيبةٍ متراكمة.
الفاشرُ ليستْ مدينةً، بل سؤالٌ مفتوحٌ يُلقيهِ الماضي في وجهِ المستقبل.
همْ مُشاةُ الإرادةِ؛ يتركونَ وراءهم خيوطَ الوداعِ الذهبية التي تنسجها زوجاتهم.
الرمالُ تغسلُ أخطاءَ الليلِ الطويل، وتعدُّهم بـ ضُحىً خالٍ من الغفران.
القائدُ ينامُ وعيناهُ مفتوحتان، لأنهُ يخشى أن تتحركَ الأحلامُ ضدّه.

VIII
نحنُ هنا ضدَّ منطقِ العائدية؛ كلُّ رجوعٍ هو استسلامٌ رمزيٌّ.
الترتيب الخامس: أن تفترضَ أنَّ كلَّ حجرٍ هو خائنٌ كامنٌ ينتظرُ اللحظةَ الحاسمة.
في شنقل الطوباي، تُسجِّلُ الريحُ أصواتَ المواطنين كـ شهاداتٍ غيرِ موثوقة.
استقبالُ الأهالي ليس احتفاءً بالنصر، بل توسُّلاً لـ النجاةِ العاجلة.
النساءُ يحملنَ جرارَ الماءِ؛ هذا ليسَ كرمَ ضيافة، بل طقسٌ لـ طردِ الجفافِ الروحيّ.
البخورُ يُطلقُ؛ محاولةٌ يائسةٌ لـ تطهيرِ الهواءِ الثقيل بـ رائحةِ الماضي الجميل.
النمرُ لا يأكلُ الآن، إنهُ يصطادُ معنىً لـ وجودهِ في هذا التشرذُمِ الجغرافيّ.
كلُّ خُطوةٍ إلى الأمامِ هي تضحيةٌ لـ الذاكرة، واعترافٌ بـ عُقمِ الحاضر.

IX
الجنودُ يوزّعون الماءَ والغذاء؛ هذا بُعدٌ إنسانيٌّ مكلَّفٌ في مسرحِ العبث.
الطفلُ الذي يبتسمُ لا يعرفُ الحربَ، إنهُ يبتسمُ لـ وميضِ النحاسِ على البندقية.
الترتيب السادس: كلُّ ابتسامةِ طفلٍ تُعتبرُ رصاصةً احتياطية ضدَّ الانهيارِ الداخليّ.
الطويشةُ وأبو زريقة؛ أسماءٌ تتحولُ إلى عناوينَ مؤلمة لـ محطاتِ الـ "لا عودة".
الجنديُّ الذي يُحيّي الأهالي بيدهِ الملوّحة، يُحيّيَ معها آخرَ جزءٍ سليمٍ من روحه.
اللعيت جار النبي؛ مكانٌ يترددُ فيهِ صوتُ قسوةِ الآباء في شكلِ أوامرَ عسكرية.
هذهِ الدروبُ الترابيةُ هي جنازةٌ مفتوحةٌ لـ سنواتِ الاستقرارِ الزائفة.
الظهيرةُ نارٌ لا ترحم، تُلغي حدودَ الجسدِ وتُبقي فقط على بقايا الإصرار.

X
الإمدادُ اللوجستيُّ: ليسَ فقط وقوداً وذخيرة، بل جرعاتٌ من الكذبِ المُنظَّم.
يُقالُ لهمْ: "النصرُ وشيك"، بينما همْ يرون ظلالَ التراجعِ تتكاثرُ في المساء.
الترتيب السابع: تجاهلُ الأصواتِ الداخلية التي تُردّدُ: "كلُّ شيءٍ هنا انتهى".
على نقاطِ التفتيشِ المهجورة، يتركُ التاريخُ بصماتهِ من العويلِ الصامت.
همْ ملوكُ المتكِ والفتكِ والجغم؛ ألقابٌ تُعلَّقُ على صدورٍ مُتعبة بالخوف.
الـ "نمر" لا يحتاجُ إلى قوةِ عضلات، بل إلى وهمِ العودةِ ليواصلَ السير.
هذا ليسَ حرباً، بل تجريدٌ فلسفيٌّ لـ مفاهيمِ الوطنِ والانتماء.
كلُّ خطأٍ تكتيكيٍّ هنا، هو تعبيرٌ شعريٌّ عن الفوضى الكونية.

XI

الخوذةُ الحديديّةُ لا تحمي الرأسَ من القذائف، بل من تفكيرِهِ المُدمّر.
الجنديّ الشاعرُ، يكتبُ قصيدتهُ الأخيرة في دفترِ الصيانةِ لـ بندقيتِهِ.
الترتيب الثامن: أن تعترفَ لـ العدمِ بـ أنَّ الخسارةَ كانتْ حتميةً منذُ البداية.
الأفقُ هنا لا يتشابهُ؛ كلُّ ميلٍ يكشفُ عن خيانةٍ جديدة لـ التضاريس.
الشجاعةُ هي القدرةُ على التنفسِ ببطءٍ عندما يكونُ كلُّ شيءٍ حولكَ يشتعلُ.
همْ وحداتٌ خاصةٌ مُدرّبةٌ على حربِ المُدنِ، لكنَّهمْ لا يعرفون حربَ القلوبِ المُهدمة.
الحنّاءُ والبخورُ في تقليدٍ دارفوريٍّ؛ إيهامٌ جماعيٌّ بأنَّهمْ أبطالٌ وليسوا وقوداً.
الوطنُ الآنَ ليسَ أرضاً، بل فكرةٌ مُتشظّية تُقاومُ هراوةَ الواقع.

XII

المصيرُ يُلغى لـ يُستبدلَ بـ احتماليةِ المعركةِ القادمة.
في الفاشر، تنتظرُهمْ الترقُّباتُ الدامية التي لا تُخفيها وسائلُ الإعلامِ الخارجية.
الترتيب التاسع: أن تُحوّلَ الترقُّبَ إلى حالةٍ منَ الجمودِ المُتقَنِ.
قبضةُ الجيشِ التي يُقالُ إنها تحكمُ؛ هي قبضةُ رجلٍ غريقٍ يتمسكُ بالهواء.
التمردُ ليسَ خارجياً، بل نزيفٌ داخليٌّ في بنيةِ الدولةِ المُتصدّعة.
الجنودُ يُحيّونَ الأطفالَ على الطرقات؛ لأنهمْ يرون فيهمْ أملَ العودةِ إلى البراءة.
الماءُ يتوزعُ؛ ليسَ لـ إخمادِ العطشِ، بل لـ تلطيفِ حرارةِ الوجعِ الجماعيّ.
كلُّ آليةٍ مدمرة هي قصيدةٌ مُسقطة من ديوانِ البقاءِ.

XIII
الوعدُ القديمُ بـ تحريرِ الأرضِ يُعادُ تدويره ليناسبَ احتياجاتِ الدعاية.
الليلُ يأتي بـ همسِ البدوِ عن مسالكٍ غيرِ مرئيّة تُخفي العدوَّ.
الترتيب العاشر: أن تستعيرَ صوتَ الباديةِ لـ تكتشفَ خريطةَ الغدرِ.
الـ "نمر" هنا، ليسَ حيواناً مفترساً، بل رجلٌ يمتلكُ قدراً ضئيلاً منَ الخيارِ.
السلاحُ الثقيلُ يُطلقُ، والصوتُ ليسَ صوتَ انفجار، بل شهقةُ وطنٍ مفجوع.
الحُمّى تُصيبُ الجنودَ؛ هي ليستْ مرضاً، بل عقوبةٌ لـ التفكيرِ الطويلِ.
العهدُ بالسفرِ ينتهي هنا؛ كلُّ المهاجرينَ عادوا بـ أعقابِ الفرارِ لـ الكتابةِ فقط.
المسافةُ بينَ الدبّة والفاشر هي مسافةٌ بينَ حقيقةٍ وكذبة، وقدْ عَبَرنا كلاهما.

XIV
في متاريسِ الوعيِ، تتكسرُ النظرياتُ وتنتصرُ لغةُ الرمادِ الواضحة.
الترتيب الحادي عشر: أن تعقدَ صُلحاً مع الأسودِ لـ تُبصرَ في عواطفِكَ الجاهزة.
الجنودُ ينامون الآنَ على وعودٍ غيرِ مؤتمنة بـ نضالٍ مجهولِ العواقب.
المُتجهُونَ نحو دارفور، همْ مُشاةُ القدرِ، لا يعنيهمْ لا نصرٌ ولا هزيمة، بل المُضيّ.
دباباتُ المتحركِ ليستْ مجردَ آلات، بل أجنةُ أحلامٍ مُعلَّقة.
نوايا البريّة لا ينويها أحد؛ هي فقط تحدثُ على هيئةِ ريحٍ وشمسٍ ودماء.
كلُّ جُرحٍ هوَ سؤالٌ يُطرحُ على وجهِ السماءِ المُغبرّ في الصباح.
الصحراءُ تستردُّ أبناءها ببطء، وتُحوّلُ الجهدَ البشريَّ إلى ذراتِ ترابٍ لامع.

XV
الترتيب الأخير والنهائي: أنْ نُعلنَ العودةَ استحالةً مُتحققةً عندَ مداركِ المتخلِّفِ.
نحنُ النتيجةُ المُعلّقةُ في مستشفى الوعيِ المريضِ بـ وسوسةِ العالقِ بـ التقدُّس.
الجنديُّ يُصبحُ نصّاً شعرياً حينما يندمجُ جسدهُ بـ خطِّ سيرِ الآليّةِ.
نمورُ الصحراء؛ بيانٌ أنثروبولوجيُّ يُسجّلُ لحظةَ انهيارِ القيمِ في الرمال.
هذا الديوانُ ليسَ عن حربٍ، بل عن استحالةِ الانفصالِ بينَ الكاتبِ والـ معصيةِ التي يرتكبها الوطن.
الحبرُ يلوي على ورقهِ؛ لأنَّه يرفضُ رسمَ كآبةِ المشهدِ بهذهِ البساطة.
كلُّ بطلٍ هنا، هو عارضٌ جانبيٌّ لـ قصةٍ أكبر لم تُكتَبْ بعد.
وانتهتْ الترتيباتُ؛ وبدأ زمنُ الحقيقةِ العاري بلا غفرانٍ أو ندمٍ أو وطن.

_____

سبتمبر 2025م

 حي العباسية - القضارف 

تعليقات

المشاركات الشائعة