ديوان : صيارفة الإنصرافي
صيارفة الإنصرافي

مصعب الرمادي
صَيارِفَة الإنصرافي
________________
الكتاب : صيارفة الإنصرافي
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : سبتمبر 2025م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
_______________________
*إلى الكاهن الإنصرافي السوداني / محمد محمود السماني
________________________________
كهنوت الإنصرافي
I
في الخرطوم التي تتساقط من سمائها القذائف مثل أمطار
مشؤومة، يخرج الإنصرافي إلى شرفته المهدّمة وهو يضحك من رائحة البارود، كأنه يضحك
من مصيره الشخصي. يقول لنفسه: الثورة علّمتنا أن نحلم، والانقلاب علّمنا أن نستيقظ، والحرب
علّمتنا أن الهذيان أفضل من كوابيس النهار. ينشر سطوره المبتورة على
"فيسبوك"، ثم يعيد مشاركتها في "واتساب"، ثم يلعن نفسه لأنه
لم يعد يعرف هل يكتب نكات أم مراثي. في مرآة نفسه يرى وجهًا مشطورًا نصفه باكٍ
ونصفه مهرّج.
II
هو الكائن الذي انحاز أولاً للهتاف ثم للانسحاب، هو
المشارك الذي لا يشارك، هو الذي يرفع لافتة بيد، ويخفي الأخرى في جيبه، متأهبًا
للهروب. يسمي هذا الموقف فلسفة، ويسميه خصومه جبنًا، ويسميه أصدقاؤه حكمةً مريرة.
بين الهتاف والخذلان يشكّل جسده قنطرة عبثية تعبر فوقها كل الإيديولوجيات الميتة.
يسخر من الجميع، لكنه في الليل، حين ينقطع التيار الكهربائي، يرتجف من خواء قلبه.
III
في زمن الخراب، يجد الإنصرافي نفسه نبيًّا للكوميديا
السوداء: يوزع نكاته كما يوزع العساكر الرصاص. يقول: لقد هزمنا الديكتاتور، لكننا لم
نهزم أنفسنا، فصرنا جنرالات في معارك الفيسبوك. يضحك على انقسامات الآخرين، لكنه
من الداخل ينهار، لأنه يعرف أن انقسامه أعقد. لا يدافع عن الجيش ولا عن الجنجويد،
لكنه يقاتل بالحروف كي يثبت أنه لا يزال حيًّا.
IV
حين يخرج من بيته المهدّم، يمشي بين الركام وكأنه يمشي
في مسرحية عبثية كتبها بيكيت، لكنه بلا انتظار. الأطفال يركضون وراءه يسألونه عن
معنى الثورة، فيجيبهم بجملة ساخرة:
الثورة لعبة كبار تنتهي دائمًا بجنازات صغار. يعود إلى غرفته
ليكتب: "أنا كائن مُستنزف، لا أعرف كيف أعيش بين أسئلة بلا أجوبة".
V
كل صباحٍ، يستيقظ الإنصرافي على أصوات الطائرات، فيخلط
بينها وبين صفارات المهرجانات. هو الذي اعتاد أن يرقص في المظاهرات كأنه في حفل
شعبي، والآن يرقص وحيدًا على أنغام الرصاص. يقول إن جسده صار طبلًا فارغًا، يقرعه
العالم ولا يملأه أحد. بين الضحكة والصرخة يعيش، كأنه يريد أن يثبت أن الكوميديا
آخر ما يمكن أن ينهار.
VI
يكتب الإنصرافي في دفاتره السرية: الجيش يقول إنه حامي الوطن،
والجنجويد يقولون إنهم أصحاب الأرض، وأنا أقول إنني حطام بينهما. يسخر من هذه
الثلاثية كأنها مسرحية سيئة الإخراج. يرى في كل طرف نسخة من الخراب، ويرى في نفسه
جمهورًا ساخرًا بلا تذكرة. كلما حاول أن ينتمي، ابتلعته الشكوك، وكلما حاول أن
ينسحب، جرّه الحنين إلى الهتاف.
VII
في مقاهي الخرطوم المغلقة، يجلس مع رفاقه يتبادلون
الحكايات المرة. أحدهم يتحدث عن الاعتقال، والآخر عن النزوح، أما هو فيروي نكاته
السوداء. حين يغضبون منه يقول: أمزح كي لا أبكي. يعرفون أنه يهرب، لكنه يهرب بطريقة
فلسفية. يقول لهم: حتى سارتر لو عاش هنا لاختبأ في "قروب واتساب"، ثم ينفجر بالضحك وحده.
VIII
كل يوم يتلقى الإنصرافي صورًا من جبهات القتال: جثث،
دمار، بيوت محترقة. ينظر إليها ثم يكتب تعليقًا ساخرًا، ثم يبكي في الخفاء. يعرف
أن السخرية ليست إلا قناعًا لوجعٍ لا يُحتمل. يقول لنفسه: أنا لا أسخر من الموت، بل أسخر من
الحياة التي جعلتنا نمارس الموت يوميًا وكأنه عادة.
IX
أيديولوجيا الإنصرافي ليست شيوعية ولا إسلامية ولا
قومية، بل أيديولوجيا "اللاجدوى". يردد دائمًا: كلهم سواء. وحين يواجهونه بالسؤال:
"وأنت؟" يرد: "أنا الفراغ الذي يبتلعهم". هذا الفراغ هو
ملاذه، ووسيلته الوحيدة للنجاة من اليقينيات القاتلة. يقدّس السؤال، لكنه يهرب من
الإجابة. يعيش كأنه يكتب نصًا بلا خاتمة.
X
في الليل الطويل، حين تُطفأ الأنوار ويعمّ الصمت، يسمع
أصواته الداخلية تشتبك مثل المليشيات. نصفه يتهمه بالجبن، نصفه الآخر بالذكاء،
نصفه الثالث بالعبث. يضحك من نفسه:
حتى داخلي صار مليشيا. يسمي هذا الانقسام "الحرية"،
لكنه في الحقيقة قيد لا ينكسر.
XI
حين يتحدث عن الثورة، يستعيد صور الساحات واللافتات
والدموع الأولى. يقول: كنا نحلم بدولة، فإذا بنا نؤسس مقبرة. يضحك من المفارقة، لكنه يذوب من
الداخل. يكتب: أصدقاؤنا صاروا مقاتلين، أحلامنا صارت أشلاء، أما أنا فصرت
مهرجًا في سيرك بلا جمهور.
XII
في يوميات الخرطوم، يصبح الإنصرافي خبيرًا في النجاة
الصغيرة: يخبئ رغيفًا تحت فراشه، يقايض الشاي ببعض الكلمات، يسرق لحظة ضحك وسط
الركام. هو يعرف أن البطولة ماتت، وأن النجاة الفردية هي البطولة الجديدة. يسمي
هذا "كهنوت البقاء"، كهنوت لا يحتاج إلى دين أو طائفة.
XIII
يسأله الناس: "لمن أنت؟ للجيش أم للجنجويد؟"
يرد بسخرية: "أنا للواي فاي". يضحكون ثم يدركون أن جوابه أخطر من كل
انتماء، لأنه يلخص عبث المعركة: معارك تُدار بالدم، وحياتنا تُدار بالشبكات. يرى
نفسه مواطنًا رقميًا في وطن بلا خرائط.
XIV
كلما اشتد القصف، يزداد إنصرافيته. يقول: كل قذيفة درس
في الفلسفة، كل انهيار منزل فصل في رواية عبثية. يسخر من الموت الجماعي لأنه لم يعد
يملك غير السخرية. يحوّل الفاجعة إلى نكتة، ثم يضحك حتى تسيل دموعه. هذه دموع ليست
من الفرح ولا من الحزن، بل من العجز المطلق.
XV
في ذهنه حوار لا ينتهي: مع مايو، مع الإنقاذ، مع الثورة،
مع الحرب. كل مرحلة تترك جرحًا، وهو يضع على الجرح ملصقًا ساخرًا. يقول: هكذا نصبح
شعبًا، بالهزائم المتراكمة، لا بالانتصارات. يختبئ وراء فلسفة مرة: أن الهوية
السودانية اليوم ليست إلا خلاصة جراحها.
XVI
يعرف الإنصرافي أنه شخصية مثيرة للجدل: يكرهه البعض لأنه
لا ينتمي، ويحبه آخرون لأنه يجرؤ على السخرية من كل شيء. في وسائل التواصل
الاجتماعي، هو ملك الجدل، في الواقع مجرد شبح. يختبئ بين الكوميديا والتراجيديا
كمن يمشي على حبل رفيع بين بنايتين محترقتين.
وفي النهاية، يكتب في مذكرته الأخيرة: أنا لست بطلًا ولا خائنًا، لست ضحية ولا جلادًا. أنا الإنصرافي، الكائن الذي اختار أن يعيش بالهذيان بدل الموت باليقين. إذا سألتموني عن إيماني، فهو العبث. إذا سألتموني عن وطني، فهو الخراب. وإذا سألتموني عن ذاتي، فهي ضحكة مريرة تتردد في صمت الخرطوم .
______
سبتمبر 2025م
حي العرب - بورتسودان


تعليقات
إرسال تعليق