ديوان : الميكرفون مع إليسار

الميكرفون مع إليسار 

مصعب الرمادي 

الميكرفون مع  إليسار

________________

 الكتاب :  الميكرفون مع إليسار
 
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : أكتوبر 2021م

حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف 

____________________________

*إلى صديقتي المغنية اللبنانية / إليسا زكريا خوري 

__________________________________

 عطر إليسا
العطر جسدها الآخر، لا قارورة ولا زجاج، بل فخذ يقطر نبيذاً، حلمتان متورّدتان تتدلى منهما قطرات الياسمين، أشفار تفوح كالمسك، وشَعرٌ ينثر عبير الصندل في كل اتجاه، الرائحة تتنفس من مسام الجلد مثل صلوات ساخنة لا تعرف الله

كل نفحة هي قُبلة مبتورة، تُلصق بالفم ثم تُنتزع فجأة، تترك دمعةً على اللسان، ولعاباً مشبعاً بالفانيليا، كل رشّة عطر على عنقها كأنها عضّة خفية، كأنها سطر شعري يُكتب بدمٍ رطب، كأنها قيد جديد يُضاف إلى أصفاد العاشق

المكونات ليست زهوراً وحسب، بل دمٌ دافئ، سائل منوي مخلوط بالعنبر، حليب امرأة لم تكتمل رضاعتها، عرق رقصٍ في غرفة مغلقة، بخور يخرج من بين الفخذين، زيت يقطر من سُرّة مضاءة بضوء أحمر خافت

حين تضعه على نهديها، لا يبقى النهد ناعماً، بل يصير جمرةً تتنفس، يندلع لهيب تحت الحمالة، تتشقق الحلمات كما تتشقق الأرض بعد المطر، يخرج من داخلها طير ملتهب، ينقر الهواء برائحته، يسكب لذته على فمٍ عطشٍ ينتظر

العطر يكتب جسدها على طريقة أخرى: الساقان تصيران أعمدة من خشب الصندل، الردفان كرسيين من مخمل وردي، الظهر صفحة من عنبر، والرقبة ممرّ إلى جنون، كل جزءٍ منها يتحول إلى جملة عطرية تفضح أكثر مما تستر

في مغامراتها الغرامية، لا تبدأ باللمس، بل بالشمّ، رجل يدفن وجهه في شعرها قبل أن يلمس يدها، امرأة تقترب فتختنق وتبكي لأنها لم تستطع امتلاك الرائحة، عطرها هو الشبق نفسه، هو الأثر الذي لا يُغتفر، هو الخيانة والوفاء في قارورة واحدة

الأثر مثل أثر الممارسة في منتصف الليل: يظل عالقاً في الهواء، في الستائر، في أصابع اليد، في الوسادة، في قميص الرجل الغريب، حتى حين يغتسل يبقى أثرها في أنفه، في جلده، في قلبه الذي صار زنزانة مفتوحة على عطرها

الروح التي كانت تنزف قبل الرائحة، تُشفى فجأة بالجرح، تُشفى بالملح، تُشفى لأنها لا تريد الشفاء، العطر مثل مشرط يُعيد فتح جرح قديم ليجعله نزيفاً جديداً، نزيفاً جميلاً، نزيفاً يُضيء الليل

حين تمرّ في الشارع، يلتفت الجميع، ليس لجسدها بل للرائحة التي تمسك بخصورهم، تجرّهم كقطيع، ترفعهم من الياقات، تُلقيهم في نهر من شهوتها، العطر أقوى من عينيها، أقوى من صوتها، أقوى من الأغنية نفسها

في غرفة النوم، لا تكتفي برشّ العطر، بل تسكبه على الفراش، على الوسائد، على جسد العاشق، ليصير كل شيء معطّراً، ليصير السرير نفسه حديقة فواحة، ليصير الليل مشهداً مسرحياً تُمارس فيه لذتها أمام جمهور من الأشباح

العطر يذوب مع اللعاب، يختلط بالقُبلة، يدخل في الفم، يخرج من الحنجرة، يلتصق بالأسنان، يصير مثل وشمٍ داخلي، لا يُمحى حتى بالموت، يبقى في الرئة، في العظام، في المخيلة، كأنه روحها وقد هاجرت إلى الداخل

كل قارورة تُفتح هي انتحار صغير، كل بخةٍ هي نشوة صغيرة، كل نفحةٍ هي قُبلة جديدة، كل رائحة هي جسدٌ آخر يُضاف إلى جسدها، كل جسد هو سطر آخر في الملحمة، وكل ملحمة هي حربٌ لا تُحسم إلا بشهقة طويلة

وهكذا، لا يبقى العطر زجاجةً على الطاولة، بل يتحول إلى نص متشظٍ، قصيدة لحمية، صلاة شهوانية، ملحمة من جسد وروح، أثرٌ يبقى بعد الغياب، خطيئة لا تمحى، ورائحة تكتب العالم من جديد على طريقة إليسا .

محاذاة الولع
ها أنا أكتبكِ من ضفة النيل، من حيث الماء يعكس صورتكِ كقمرٍ مصلوب فوق مرايا الخرطوم، أكتبكِ كأنكِ نشيد أول، كأنكِ بداية أخرى للخلق، يا امرأةً لم يبتكرها أحد قبل الأغنية.

كل خطوةٍ منكِ برقٌ ينشقّ في صالةٍ غارقة بالأنفاس، تشتعل الكراسي، ينهض العاشقون كقومٍ مستنفرين، ويمدّون أذرعهم نحو خصرٍ يشبه انحناءة غصن زيتون، يتمايل في الريح كأنه قانونٌ للحياة.

صوتكِ ليس صوتاً، بل اندفاعُ نهرٍ في ليلٍ مقمر، يعبر الغابات، يضرب الصخر، يسقي عطش الأرض، يتركنا حفاةً أمام فيضه، بلا جدارٍ ولا ملاذ.

حين ترتفعين على المسرح، يتساقط الضياء من كتفيكِ، شعركِ الأسود يفيض كشلالٍ يركض في الحنجرة، والعيون تذوب في عينيكِ، عميقتين مثل ليلٍ لا يُقاس بالنجوم.

يا جسداً يكتبه الشعراء بحبر الدم، يا قامةً ممشوقة كرمحٍ في ساحة المعركة، يا صدرًا يفيض حليب الغواية، يا شفتين حمراوين كجرحٍ اختار أن يزهر.

في مكياجكِ تشرق أيقونة بيزنطية، خدودٌ مورّدة، ظلّ بنفسجي يطوّق العينين، خطوطٌ دقيقة ترسم سراباً يجرّنا إلى بئر العطش، ونحن ندخلها راغبين لا مكرهين.

حين تغنّين، يتصدع الهواء، ينهض جسدكِ مثل برجٍ من نار، يهتزّ الفستان، ترتجف الأرض، ويهتف الجمهور كأنه جيشٌ مأخوذٌ بتعاويذ ساحرة.

أيتها اللبوة الخارجة من دير الأحمر، أيها الفمُ الذي يشبه كأساً ممتلئة بالخمر، أيها الجسد الذي يزرع الجوع في قلوب الشبعى، ويزرع الخوف في قلوب الأقوياء.

كل لحنٍ تخرجينه هو نداءٌ للعاشقين، كل كلمةٍ سهمٌ مسموم، كل تنهيدة عاصفة، تفتح أبواب الليل على حرائق من الولع، لا تنطفئ حتى تنام المدينة على رمادها.

كنتُ أراكِ في زجاج الألبومات، لا صورةً مطبوعة، بل جسداً يخرج من الورق، يمد يديه نحوي، يسرق قلبي، يضعه في حقيبتكِ الصغيرة، كأنكِ عابرةٌ تحتفظ بالأسرار كقطع حلوى.

يا أنثى تكبر في كل أغنية، يا بحرًا لا قرار له، يا موسيقى تمحو حدود الجسد وتعيد رسمه، يا ليلًا يتناسل في صدور الرجال، ولا يكتفي.

في صمتكِ أيضاً موسيقى، في دمعتكِ نغمة، في ابتسامتكِ وطن، وفي جسدكِ المحروس بأنوثةٍ هادرة، يذوب العاشق مثل شمعة، ويشتعل مثل وقود حربٍ لا نهاية لها.

وأنا، في محاذاة الولع، لا أملك إلا أن أكتبكِ مراراً، أن أترك دمي ينسكب على الورق، أن أقول: إليسا ليست أغنية، بل نبوءة جسدٍ يمشي بيننا، يكتبنا كما يكتب اللهُ خلقه الأول.

 
فهرس الألبوم
I
في البدء كان الجسدُ فهرساً، يكتب أغنياته على الجلد، يوزّعها بين الشفاه والعنق والصدر، كل مقطع لحن، وكل تنهيدة بيت موسيقي.

II
في الليالي التي يشعلها العاشقون، كانت تنزل من المسرح كإلهةٍ تجرُّ ثوبها الموشى بالفضة، تترك العيون معلّقةً بين الرجاء والخذلان، بين الجوع والامتلاء.

III
حين تقترب من الميكرفون، كانت قلوبنا تهتز كما تهتز القناديل أمام ريحٍ عاصفة؛ نعرف أننا سنُجرَح، لكننا نفتح الصدور لها.

IV
هناك نشيدٌ لم ينقطع، يصفعنا بالغيرة، يغمرنا بالعناق، يتركنا عُراة أمام أنفسنا، ثم يبتسم مثل عاصفةٍ تخلع النوافذ.

V
طلعتها البهية كانت تقرأ الفهرس بصوتٍ جسدي: قامة ممشوقة كرمحٍ لا يلين، صدرٌ يتنفس كما تتنفس الغابة بعد المطر، وخصرٌ لا يترك للحواس مجالاً للهرب.

VI
كان مكياجها فصلاً خاصاً: ظلّ بنفسجي يلوّن العينين كأنهما غابتان مسحورتان، شفاهٌ كرمانٍ مقطوف في عزّ الرغبة، وخدودٌ تستدعي صفعات القُبل.

VII
المقطع الغرامي لا يُكتب بالنوتة، بل بارتعاشة الأصابع فوق الحناجر، بالدمع الذي ينزلق مثل نبيذٍ معتّق، وبنيرانٍ تشتعل في الحلق دون ماء.

VIII
أحياناً كانت أغنيتها تخرج كصراخ، لا كغناء؛ تمزّق قمصان العاشقين، وتتركهم عراةً أمام أعين النساء الأخريات، تفضح ما حاولوا ستره.

IX
كل أغنيةٍ كانت فهرساً آخر للخيبة: فهرساً للعناق المؤجَّل، للقبل التي سقطت قبل أن تولد، وللوعود التي تبخّرت مع دخان السيجارة الأولى.

X
في عتمة الصالة، حين تلتفت مبتسمة، كان كل رجلٍ يتوهّم أنه الفهرس الوحيد في حياتها، لكنه يدرك سريعاً أن الأغنية تشاركه مع آخرين مجهولين.

XI
الشهوانية في صوتها كانت كحصانٍ جامح، تركض به إلى آخر الوادي، لا يوقفه سوى العرق الذي يلمع فوق جبينها، والصرخة الأخيرة في نهاية اللحن.

XII
هناك حيث يلتقي العاشقون في الخفاء، كانت موسيقاها تعيد رسم الأجساد من جديد: تكتب لهم على الشفاه، ترسم للنساء نهوداً أبهى، وتمنح للرجال خصوراً أشدّ.

XIII
وهكذا صار الفهرس ألبوماً، والألبوم جسداً، والجسد مسرحاً، والمسرح حرباً، والحرب حباً، والحب إليسا، وإليسا ملكةً لا يجرؤ أحد على إحصاء أناشيدها.

ملكة الإحساس
لتكن مشيئة الموهبة كما شاءها القدر؛ في انكشافها على دفء الرومانسية، وعلى يقظة الحواس التي لا تركن لمعطف الشتاء ولا تغلق نوافذها على نار الغيرة. هناك، في انتظار خلف ستار المسرح الغفير، تقف "ملكة الإحساس" متكئة على حزن ولوعة، والجمهور يترقب إطلالتها.

لقد اعتاد الناس أن يترددوا في متابعة المختلف، لكن قوة المشاعر التي تحملها إليسا جعلت من أغنياتها ما يلامس العاطفة مباشرة، فتنال الجوائز تلو الجوائز، وتثبت حضورها بندّية كاملة على ساحة الموسيقى العربية. إنها مسيرة ممتدة تحمل معها فرح العائلة اللبنانية: الأب "زكريا خوري"، الأم "يمنى سعود"، والأخوات "نورما" و"ريتا"، والإخوة "جهاد" و"غسان" و"كميل".

لم يخفِ مسقط رأسها "دير الأحمر" أسرارها الدقيقة، فهي ابنة البقاع التي لم تخن جذورها، بل حملت معها صلابة الريف ودفء الانتماء. ومن هناك بدأت خطواتها الأولى، حيث تماهى خوف البدايات مع رغبة جامحة في أن تكون محترفة، سلطانة على عرش العاطفة، تتحدى قيود الموروث، وتعيد تعريف الأنوثة بروح متمردة.

صوتها كان أقرب إلى مزمار يوقظ المدى، وهي في بداياتها تتقاضى أجراً زهيداً في حفلات صغيرة. لكنها كانت تملك شغفاً متقداً لا تهزه الشائعات ولا تُثنيه العراقيل. لقد جعلت من محطاتها المتغيرة سلماً إلى ثباتٍ أكبر، خطوةً بعد أخرى، حتى بلغت حيث يليق بها المجد.

لكن مسيرتها لم تخلُ من محن؛ لحظات إرهاقٍ كادت تُسقطها مغشياً عليها فوق الخشبة، وضغوط المهنة التي تُراكم عليها الاتهامات والخلافات. ومع ذلك، ظلت تصمد في وجه كل ما يُشبه الغش العام، كأنها تقول إنها لن تُدفن في إسطبلٍ منسيّ بعد أن أعادت للفن الحديث وهجه.

ولم يكن المرض إلا امتحاناً آخر، إذ خاضت رحلة علاج من سرطان الثدي، في حين كان صوتها يُصاب بالوهن. لكنها، رغم الألم، ظلت تغني، تُنشد للحياة مع جوقة القبرات الصادحة.

برصيدٍ ضخم من الألبومات التي تصدّرت المبيعات، تجلس إليسا على شرفة بيروت الشرقية، كنجمة عالمية. شهرتها البارزة لم تُنقص من تلقائيتها شيئاً، حتى وإن سرق منها الزمن وقتاً كان يمكن أن يُنفق في الاهتمام بمظهرها. لكنها في كل الأحوال، لم تسمح لشيء أن يغطي على صدق تجربتها الفنية.

لقد أحاطت بها الشائعات، وأُثيرت حولها القصص، غير أن صوتها ظلّ أصدق من كل الادعاءات. فالحب عندها كان مبتوراً في الحياة الخاصة، لكنه مكتملٌ في الفن. ومع ذلك، ظلت صورة "فارس الأحلام" حاضرة في وجدان جمهورها، فارسٌ وسيم على حصانٍ أبيض، يطلّ من بين أنغامها ليُكمل أسطورتها.

_____

يتبع

_________

 أكتوبر 2021م

 قرية الساحة اللبنانية - الخرطوم 

تعليقات

المشاركات الشائعة