ديوان : غيبوبة البيريسترويكا

غيبوبة البيريسترويكا

مصعب الرمادي

غيبوبة البيريسترويكا
____________________

الكتاب : غيبوبة البيريستريكا    
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع :يناير 2020م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف

______________________

*  إلى روح صديقتي الشاعرة الروسية /  أولغا بيرغولتس 

_________
المقدمة
في نهاية قرنٍ صدّق البشر أن الجدران أبدية، وأن الشعارات تصمد أطول من الخرسانة، تشققت الحقيقة تحت أقدامهم. كان جدار برلين ينهار كصنمٍ من ورق مقوّى، وكان الاتحاد السوفيتي يترنح كراقصٍ عجوز فقد إيقاعه.
في تلك اللحظة، كتب التاريخ نصّه الأكثر سخرية: ملحمة بلا أبطال، حرب بلا مدافع، سقوط بلا دماء. لقد هزم الوهمُ نفسه، لا العدو الخارجي.

البروستريكا جاءت كابنةٍ مرتبكةٍ لزمنٍ مضطرب: لا هي ثورة ولا هي إصلاح، بل غيبوبة معلّقة بين حلمٍ متآكل ويقظةٍ مستحيلة. وبينما كانت الشعوب تنتظر فجرًا جديدًا، أطلّ المساء بوجهٍ آخر: أسواق حرة، عملات صعبة، وأحلام تباع في المزادات.

هذه النصوص الثلاثة ليست رثاءً للمعسكر الاشتراكي، بل هجاءٌ لزمنٍ صدّق أن العدالة يمكن أن تُدار مثل مصنع، وأن الحرية يمكن أن تُصاغ كقانونٍ بيروقراطي.إنها أغنية ساخرة للغيبوبة، للنقد، وللسقوط؛ أغنية كتبتها يد التاريخ بخطٍ مرتجف، وأدّاها مهرجون في مسرحٍ عالمي مزدحم.


 النص الأول : الغيبوبة
في أواخر القرن، حين صار الجدارُ أطول من صبر الجماهير وأقصر من عمر الأيديولوجيا، تمدد الاتحاد كعجوزٍ على سريرٍ من إسمنت متشقق.
كانت البروستريكا مثل ممرضةٍ مرتبكة، تحاول إنعاش مريضٍ يرفض أن يستيقظ. كلما صاحت في أذنه باسم "الإصلاح"، ارتعش قليلاً، ثم غرق أعمق في الغيبوبة.
في الشوارع، غنّى الناس لمستقبلٍ لم يأتِ، وأقسم الجنرالات أن الوطن ما زال بخير، فيما بنوك الغرب كانت تحجز مكانًا لليتيم القادم.
لم يكن السقوط موتًا كاملاً، بل كان مهزلةً بطيئة، كفيلم أبيض وأسود انقطع شريطه عند مشهد نصف مبتور.
الذين كانوا يرفعون صور لينين، رفعوا اليوم صور سيارات ألمانية. والذين أقسموا بدماء العمال، أقسموا ببركات الدولار.
الغيبوبة إذن لم تكن حدثًا عابرًا، بل طقسًا جماعيًا، حفلة تنكّرية فيها كل فرد يرتدي قناعًا يناسب انهياره. هناك، خلف جدران الكرملين، جلس التاريخ يدخن غليونه ببرود، يراقب الممثلين يسقطون واحدًا تلو الآخر.
لم تكن النهاية مأساة تراجيدية، بل ملهاة متأخرة، تصفق لها الشعوب بيدٍ وترثيها باليد الأخرى.
في موسكو، كان الليل طويلًا، أطول من حكايات الثورة، أقصر من أوهام النهضة.
المديح كله كان للغيبوبة، لأن الموت نفسه بدَا خيارًا أكثر كرامة.
هكذا صارت البروستريكا نشيدًا بلا لحن، غيبوبة بلا نهاية، وطفلًا لقيطًا ضاع في جنازة الأحلام الكبرى.

النص الثاني : النقد
I
لم يكن الإصلاح وعدًا بالحياة، بل قناعًا جديدًا لجنازة قديمة.

II
البروستريكا أشبه برقصة دبٍّ مخمور: يتمايل، يسقط، ويضحك الجمهور من بعيد.

III
الشيوعية لم تمت نائمة، بل قُتلت وهي ترتدي بذلةً بيروقراطية مملة.

IV
الغيبوبة إذن ليست مرضًا، بل مسرحًا يُعرض فيه سقوط الأبطال.

V
ما جدوى أن تستيقظ الشعوب على فراغ؟ الصمت أثقل من كل الشعارات.

VI
النقد هنا لا يجلد النظام فقط، بل يسخر من فكرة العدالة حين تتحول إلى خطبة رسمية.

VII
ماركس كان نبيًا للحلم، لكن خلفاءه صاروا كتبةً في دوائر التوزيع.

VIII
أما الرأسمالية فاستقبلت الجدار المنهار مثل لصٍ يفتح خزانةً لا تخصه.

IX
هل كان الإصلاح إصلاحًا فعلًا، أم إعلانًا مدفوع الأجر عن سقوطٍ وشيك؟

X
كل أمة تخاف لحظة بروستريكا خاصة بها، فتخبئها في الأدراج.

XI
الغيبوبة اليوم ليست روسية، بل عابرة للقارات.

XII
الفيلسوف يرى في السقوط مسرحية تعليمية: درس في هشاشة المعنى.

XIII
أما الناقد فيرى فيه كرنفالًا، مهرجانًا يضحك فيه التاريخ من فشل الجميع.

XIV
التاريخ لم يتقاعد بعد، لكنه صار مهرجًا يتنقل بين العواصم.

XV
والمعسكر كله؟ لم يعد معسكرًا، بل خرابًا موزعًا بالتجزئة على الأسواق.

النص الثالث : السقوط
1
البروستريكا لم تكن إصلاحًا، بل نكتةً باهتة تُروى في مقاهي برلين بعد سقوط الجدار.

2
الغيبوبة ليست غيابًا عن التاريخ، بل غناء نشاز في جنازةٍ بلا مشيّعين.

3
موسكو في الليل بدت كراقصة باليه فقدت توازنها، ترقص على أطلال قاعة فارغة.

4
الأيديولوجيا تحللت مثل تمثال لينين المخلوع، جسد ضخم لكن رأسه مجوَّف.

5
الحلم الجماعي تبعثر إلى دولارات رخيصة وبطاقات طعام يتيمة على أبواب السفارات.

6
التاريخ جلس على الرصيف، يشحذ سجائر من العابرين، ضاحكًا من ثورةٍ بلا أسنان.

7
الغيبوبة هنا كانت عقابًا لا على الحلم، بل على السذاجة التي صدّقت الحلم.

8
الذين حلموا بالعدالة صاروا يبيعون ملابس الجيش الأحمر في أسواق البرغوث.

9
الذين رددوا "يا عمّال العالم اتحدوا" صاروا يغنون "يا مستثمرين العالم تعالوا".

10
كل إصلاح غير مكتمل ليس إلا إعلان وفاة متأخر.

11
كل نهضة بلا جذور تذروها الريح، مثل منشورات الحزب في شوارع مهجورة.

12
البروستريكا كانت مرآةً متكسّرة، من ينظر إليها لا يرى إلا شبحه الممزق.

13
الغيبوبة لم تكن سقوط الاتحاد وحده، بل سقوط الإيمان نفسه من حافة يقينه.

14
التاريخ أعاد لعبته، لكن هذه المرة بلا أقنعة: كوميديا سوداء بحجم قارة.

15
الحضارة كلها أصيبت بعدوى الغيبوبة، تركض نحو السوق الحرّ كما يركض الأعمى نحو هاوية.

16
السؤال الذي بقي معلقًا: من سيوقظنا؟ جرس الكنيسة أم ضحكة وول ستريت؟

17
أم أننا نحن، مثل غورباتشوف، أطباء الغيبوبة ومرضى السقوط في آن واحد؟


الخاتمة
لم يكن سقوط الجدار سوى بداية عرضٍ أكبر: ثلاثية الغيبوبة، النقد، السقوط. غيبوبةٌ تمدد فيها الاتحاد السوفيتي على سرير الإمبراطوريات، يلهث بين أنفاسٍ متقطعة، بينما البروستريكا تحاول عبثًا أن تنفخ الحياة في رئةٍ مثقوبة. نقدٌ تحوّل إلى كرنفالٍ أسود، فيه الفلاسفة والبيروقراطيون يرقصون حول جثةٍ ضخمة اسمها الاشتراكية، يسخرون منها ويقتاتون عليها في آن واحد. وسقوطٌ جاء لا كمأساة بطولية، بل كملهاة تاريخية، ضحك فيها العالم حتى البكاء.

الشيوعية لم تمت في برلين وحدها، ولا في موسكو وحدها؛ لقد ماتت في وجدانٍ بشريٍ صدّق أن العدالة يمكن أن تُعبأ في شعارات، وأن الحلم يمكن أن يوزَّع بالحصص. ومع ذلك، يبقى موتها موتًا ناقصًا: فالأشباح ما زالت تتجول، والكارثة لم تكتمل.

التاريخ، كعادته، لم يكن قاسيًا ولا رحيمًا، بل كان مهرجًا شريرًا. أزاح الستار عن المعسكر الاشتراكي ليدخل المعسكر الرأسمالي في غيبوبة أخرى، أشد هلاميةً وعبثًا. وما بين الغيبوبتين، يظل الإنسان يتساءل: هل نحن أطباء الحضارة أم مرضاها؟ هل نسخر من سقوط الآخرين لنكتشف في النهاية أننا نحن الضحايا؟

وهكذا، تُطوى صفحة القرن العشرين لا كفصلٍ مجيد، بل كقصيدة ساخرة كتبها التاريخ بحبرٍ أسود على جدارٍ متهالك:
"ها هم ورثة الأحلام الكبرى… يمشون خلف نعشٍ فارغ، ويغنون نشيدًا بلا لحن."

__

يتبع

________

يناير 2020م   
مكتبة جامعة أمدرمان الأهلية 


تعليقات

المشاركات الشائعة