ديوان : سميراميس
مصعب الرمادي
سميراميس
__________________
الكاتب : مصعب الرمادي
الكتاب : سميراميس
تاريخ
الطبع : مايو 2023م
حقوق
الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
________________________
سيدة بابل الأولى
I
جلستُ حيثُ النيلُ يغمضُ عينيهُ نصفَ نومٍ، وأحصي أسماءَ بلادٍ توقّفتْ عن النطق، ساندرا تقرعُ البابَ بخاتمِها كما يقرعُ الحدادُ لسهمٍ قديم، تقول: ولدتْ حمامةٌ من ماءٍ منسيّ،
اسمها ينهشُ الجغرافيا ويبتسمُ كأنه وطنٌ بلا جنسية،
أحاولُ أن أقرأَ الخرطومَ على فَمِ فنجانٍ بارد، فلا أجدُ سوى رسائلٍ مبعثرة، النيلُ يهمسُ بأسماءٍ تسرقُها الريح، وأنا أكتبُها كي لا تنطفئَ،
في حضرةِ ساندرا يصبحُ الفندقُ مكتبةً لآلهةٍ مهجورة،
وأنا — هنا — أضعُ غيمةً فوقَ قبرِ مدينةٍ حتى لا يظلّ النَدى وحدهُ شاهدًا.
II.
سميراميسُ ولدتْ في فجرٍ بلا ضوءٍ، حمامةٌ رأتْ أن تُعلّمَ البشرَ أن يصنعوا من الماءِ قصائد،
تعلمتْ أن تُمسكَ الحزنَ بحبلٍ رقيقٍ وتُصفّفَهُ كزهرةٍ للعرضِ،
نمتْ في حضنِ الرعاةِ وفي ظلِّ أغاني الطيورِ، فتعلّمَتْ أن تكونَ ملكةً بلا تاجٍ، المدينةُ الأولى في صدرِها امرأةٌ تنتظرُ أن يُصارِعَها التاريخُ على السكون،
ساندرا تهمسُ: كلُّ ولادةٍ أسطوريةٍ هي رسالةٌ تُرسَلُ إلى المدنِ المتعبةِ كي تنهضَ، وأنا أكتبُ هذهِ الرسائلَ كأنّي أحفرها على جلدِ الليلِ، فالمكانُ يحتاجُ شاعرًا يوقِظُهُ من سباتهِ بعصًا من حروفٍ لا تكذب.
III.
صعدتْ العرشَ بحنكةِ من لم يَرَ الحربَ إلا في المرآة،
العرشُ عندها لم يكن خشبًا أو حجرًا، بل حرفٌ يُتلى كل صباحٍ على الشفاه،
حوّلتْ البلاطَ إلى مجلسِ قصائدٍ تُعطى الفقراءَ مثلَ خبزٍ،
علمتْ الرجالَ أن الكلماتَ تُقاتلُ كما يُقاتلُ السيفُ في المساء،
ساندرا توقِفُ حركةَ الاستقبالِ لتقولَ: إنّ السلطةَ تُحيا حين تُعاشُ كقِصّةٍ،
أرى في عينيها مدينةً تُصلحُ جراحَها بكفٍّ من نورٍٍ بطيء،
وكأنّ كلَّ عهدٍ ينهضُ من صفحَةٍ تَكْتُبُها امرأةٌ لا تعرفُ الهزيمة.
IV.
الجنائنُ المعلّقةُ ليست رفاهيةً، بل عريضةُ حياةٍ تفندُ الجفافَ كقضاءٍ ظالمٍ،
تزرعُ فوقَ السطوحِ أشجارًا تضحكُ في وجهِ الصحراءِ، وتعلّمُ السماءَ أن تحنَّ،
كلُّ ورقةٍ هناك تُصبحُ شهادةً على حقٍّ في البقاءِ، وليستْ مزهريةً لضيفٍ أجنبيّ،
ساندرا تقولُ وهي تمسحُ طاولةً: نحنُ نزرعُ حتى نُعلّمَ الأرضَ أن تَحفظَ أسماءَنا،
أزرعُ اسْمَكِ على هامشِ القصيدةِ كي تضيءَ في ليلٍ طويلٍ مكانًا لمسيرتنا،
فالحديقةُ هي معبدٌ لقُدرةِ الإنسانِ على أن يعاندَ الفناءَ بابتسامةٍ خضراء،
وإذا ما نُسيت التربةُ فذلك لأنّنا نخلعُ من أزمنةٍ جذورَها.
V.
بين دجلة والنيلِ يلتقي الكلامُ في مرآةٍ قديمةٍ، وتتناوبُ الحكايا على الشاطئِ،
مصرُ تقرأُ بابلَ في خطوطِ كفٍّ، وبابلُ تُصغِي لمصرَ كأنها أمٌّ تُظهرُ ولدَها للنورِ،
المتاحفُ تحفظُ الأسماءَ لكنّها لا تُعلِّمُ الأصابعَ كيف تُداعبُ التماثيلَ،
ساندرا تقولُ: المتحفُ يسردُ التاريخَ كقِصّةٍ لزائرٍ سائحٍ، لا كعِزاءٍ لشعبٍ،
أحملُ خبزَ الذاكرةِ في جيبي وأوزّعهُ على أفواهٍ عطشى،
فالذكرى تشتري الأماكنَ من جديدٍ حين يعترفُ الناسُ بأنهم جزءٌ من تلكَ القطعِ،
ومن غيرِ هذهِ اللمساتِ تبقى الآثارُ أشياءً لا تعرفُ معنى الصدقِ.
VI.
في البلاطِ تُنسَخُ الأقنعةُ وتُباعُ البراءاتُ تحتَ أسماءٍ رسميةٍ،
الأسطورةُ تكشفُ عن قلةِ الحيلةِ لدى السلطانِ حين يتخلّى عن السردِ،
السلطةُ هناك تُبنى على الخوفِ وتنهارُ أمامَ قصيدةٍ تُعلنُ حقّ الإنسانِ في الكلامِ،
ساندرا تُخرجُ من درجها أوراقًا ممزقةً بأسماءٍ لم تُدعُ لوليمةِ التاريخِ،
أُعيدُ ترتيبَها كأنّي أعيدُ ترتيبَ جثثٍ لم تمُتْ بعدُ،
وأكتبُ أن القانونَ الذي لا يحفظُ الحكايةَ إنما هو قانونٌ على حبلٍ واهٍ،
فالشعرُ هنا ليس ترفًا بل شهادةُ ميلادٍ لمدنٍ ترفضُ أن تُدفنَ في حشوّ الأرقام.
VII.
ابنٌ أحبّ أُمَّهُ حبًّا جعلَ العرشَ يَتزلزلُ كمنجدٍ قديمٍ،
الحبُّ في الأسطورةِ لا يقبلُ أن يكونَ ميكانيكًا، بل ثورةٌ على كلِّ طقوسَ الغصبِ،
هنا ينهارُ التاريخُ حين تختلطُ الحدودُ بين المقدّسِ والإنسانِ،
ساندرا تهمسُ كما لو أنّها تفتحُ صفحةً حمراءَ: لا تخلطوا بين الفراشِ والعرشِ يا أيها الأخيار،
أعدُّ أسماءَ الذين أحبّوا دون أن يطلبوا إذنًا من الإمبراطورَ،
لأنّ الحبَّ — حين يُقالُ — يجعلُ من الأرضِ حديقةً لا تسألُ عن أذوناتٍ،
والشاعرُ هنا يعلّمُ القوانينَ كيف تكون إنسانيةً قبل أن تكونَ قوانينَ.
VIII.
الفندقُ صارَ مرآةً لوجوهٍ تُباعُ وتُشترى، وصارَ ذاكرةً مؤجرةً لزمنٍ مضى،
في بهوهِ رحلاتٌ منسيةٌ تلتقطُ الصورَ كأنّها طقوسُ عبادةٍ بلا ركوعٍ،
ساندرا تنظفُ الزجاجَ وتخبرني عن ليالٍ وقفَتْ فيها الديمقراطيةُ على عتبةِ البابِ،
ثورةُ ينايرِ جاءتْ لتقترعَ على تلكَ النافذةِ وتصرخَ: نحنُ هنا، لا للماضيِ لمجرّدِ المزجَ،
أُعيدُ كتابةَ أسماءٍ على جدرانِ الفندقِ كي لا تصبحَ الذكرياتُ سلعًا في سوقٍ بلا ضميرٍ،
فالذاكرةُ عندما تُستأجرُ تُفقدُ رائحةَ الملحِ، وتتحوّلُ إلى شعارٍ بدونِ لحمٍ،
وهنا الشاعرُ يعيدُ للفندقِ ليلَهُ الإنسانِيَّ كأنّه يعودُ إلى صدرِهِ.
IX.
في ليلةِ الزجاجِ المكسورِ، هتفَ الناسُ بأسماءٍ مُمنوعةٍ، فارتجَّتِ الأبوابُ،
الهتافُ كانَ كتابًا يقرأهُ النهرُ في حضرةِ القمرِ،
الشارعُ كتبَ لنفسه دستورًا من صدى، وصارَ فجرًا يصيرُ إلى شيءٍ يُشبهُ الرجوعَ،
ساندرا وقفتْ وراءَ البابِ، عيونها كالملحِ، ويدها على صدرِها تحرسُ خاتمًا،
أعيدُ ما شاهدتُ إلى حبرٍ يقرأه النيلُ ويعيدهُ إلى الخرطومِ،
فالثورةُ لا تهدمُ فقط، بل تُعيدُ للنورِ أسماءً كانتْ في الظلِّ،
والقصيدةُ هنا تصبحُ سلاحًا لطيفًا ينقّبُ عن الأيامِ في رمالِ الذاكرةِ.
X.
أمامَ المتحفِ قلتُ للتماثيلِ: عليكم أن تتعلموا الكلامَ،
أن لا تكونوا نُصبًا للزائرِ فحسب، بل أمًّا لكونٍ يتكلّمُ،
ساندرا تقولُ: المتحفُ يحتاجُ صوتًا لا مرآةً، يجبُ أن ينطقَ بالعابرِ قبل أن ينطقَ بالزائر،
أكتبُ أسماءَ الشوارعِ وأدسّها في جيوبِ الحجارةِ، لتخرجَ عندَ أولِ مطرٍ وتُسمع،
فالآثارُ إن لم تُعطَ حياةً فهي قبورُ بلا نعوشٍ،
ونحنُ النُسّاكُ الذين يوقِظونها بقراءةٍ بطيئةٍ للحلمِ،
وهكذا تصبحُ المدينةُ مُتَعافيةً حين تُعادُ أحاديثُها إلى موائدِ الناسِ.
XI.
النساءُ في قصتي هنّ أمهاتُ الحضارةِ ونافَحاتُ الشعرِ،
هنّ اللُّغَةُ التي تُعلّمُ الرجالَ أن يسامحوا حتى قبل أن يسألوا،
كلُّ امرأةٍ هنا تزرعُ بيتًا وتُعلّمُ الأطفالَ أن يكرّموا المطرَ،
ساندرا تقولُ: أعطوني أمًّا — سأعيدُ لها المدينةَ،
أسطّرُ أسمائهنّ في دفترٍ كأنه قرآنُ الأرضِ،
فالبيتُ الذي تبنيه المرأةُ ليس بيتًا بل دستورٌ صغيرٌ للغدِ،
والشاعرُ وحدهُ من يكتبُهُ بخطٍ لا يموتُ مع ضجيجِ الحروبِ.
XII.
المقاهيُ هي معابرُ الذاكرةِ، هناك تُودَعُ الحكايا وتُحرس،
في كلّ فنجانٍ تُعدُّ أسطورةٌ جديدةٌ للمدينةِ، ومَن يخشى أن ينسى يشتري فنجانهُ،
ساندرا تُطيّرُ الليلَ بأشواطِ كلماتٍ تُشبهُ شَعْرَ النورِ،
أجمعُ بقايا الخرطومِ كما يجمعُ النسّاجُ خيوطَهُ، وأعيدُ نَسجَ وجهٍ لم يزلْ حيًا،
النيلُ هنا ليس ماءً فقط بل صندوقُ بريدٍ للعابرينَ، يحملُ رسائلَ لا تُقرأُ إلا في الصباحِ،
والشاعرُ هو الذي يُفرّغُ هذا البريدَ ويقُرأُهُ بصوتٍ يجعلُ الحجارةَ تبكي،
فالمقهيانِ: هذا وذاك، هما متحفانِ للصمتِ الذي ينتظرُ أن يصبحَ كلامًا.
XIII.
قبلَ الفجرِ أعطتني ساندرا خاتمَ حمامةٍ من فضّةٍ، وقالت: احملهُ شاهدا . قلتُ لها: وهل تكفي الشهادةُ؟ فأومأتْ: لا تكفي إلّا إذا كتبْتَ لها قصيدةً . أدخلتُ الخاتمَ في دفتري، وأغلقتُ الصفحةَ الأولىَ كأنّي أدفنُ وعدًا،
أمشي الآنَ إلى جانبِ النهرِ حاملًا أسماءَ الخرطومِ كألحانٍ لا تُنسى، لا عودةٌ كاملةٌ، لكنّ سطرًا يبدأُ هنا، في قعرِ الليل، سيصلُ صباحًا، سميراميسُ ليستْ ملكةً في قصيدتي فقط، بل امرأةٌ تعلمنا أن نَصنعَ المدنَ من رحمِ الكلامِ،
أعودُ لأجعلَ من قصيدتي مدينةً تأوي من لم تُعدهمِ العواصم، وتغدقُ عليهمَ الماءَ والخبزَ والاسم.
__
مارس 2020م
فندق سميراميس - القاهرة
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى



تعليقات
إرسال تعليق