ديوان : مهرة مستلقية أمام المرآة

مصعب الرمادي
مُهرةٌ مُستلقيةٌ أمام المرآة
_______________________
الكاتب : مصعب الرمادي
الكتاب : مهرةٌ مستلقيةٌ أمام المرآة
تاريخ الطبع : يونيو 2019م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف
____________________________
* إلى صديقتي الشاعرة الكويتية الرائعة / سعدية مُفَّرح
__________________________________
سيدةٌ من الجهراء
في الجهراء، حيث تنهض الصحراء ككتابٍ من الرمل مفتوحٍ على مائدة الغياب، تستيقظ امرأةٌ لتسكب القهوة في فنجانٍ لا يكتمل إلا بحضور الكلمات، تفتح نافذتها كمن يطلق سجينا من هواءٍ خانق، ثم تمسّد على دفاترها جملةً نصف مكتملة تتركها كي يكملها الليل، كأنها تعلم أن الكتابة ليست اختياراً بل قدراً يحاصرها كل صباح، وأن المرآة التي تحدق فيها ليست سوى جدارٍ آخر من الأسئلة.
المرأة هناك تعرف أن الشوارع ليست طرقاً للعبور بل نصوصاً أخرى تنتظر من يكتبها، فظل نخلةٍ على الإسفلت يصير استعارةً تتحدى الخراب، ورائحة الخبز في الأزقة تتحول إلى لازمةٍ شعرية لا ينساها القلب، حتى السوق بعجائبه المعلقة فوق الخضار والسمك يبدو كأنه حاشية على نصٍ مجهولٍ كتبه القدر، وهي تسير بخطواتٍ مدروسةٍ وسط الضجيج لتلتقط بيدها تلك التفاصيل الصغيرة التي تتكاثر كالنجوم على أرضٍ قاحلة.
وحين تجلس إلى طاولةٍ وحيدةٍ في بيتٍ يضيق بأسراره، تضع الصحف في صفٍ مستقيمٍ كما لو أنها تحارب الفوضى التي تتسرب من العناوين، وتكتب في الهامش ما يشبه الاعتراف العابر الذي لا يجرؤ أحدٌ على قوله، ثم تعود إلى مطبخها حيث الرائحة تغدو كتاباً آخر لا يقرأه سواها، وفي المساء حين يزورها البحر عبر النافذة، تهمس لنفسها أن الملوحة ليست سوى وجهٍ آخر للدمع، وأن الغياب أيضاً يمكن أن يتحول إلى لغةٍ تستحق أن تُعاش.
كانت تعرف أن الشعر لا يولد من الأبراج العالية بل من الطوابير الطويلة أمام المخابز، ومن ضحكة طفلٍ يركض خلف قميصه الأبيض في شارعٍ ضيق، ومن صمت امرأةٍ تجلس على كرسي بلاستيكي تحت شجرةٍ هرمة، لذلك كانت تكتب ببطءٍ عن كل ما يهمله الآخرون، وتحوّل اليومي البسيط إلى أسطورةٍ متخفية، وتجعل من الجهراء ذاتها مرآةً عجيبة ترى فيها النساء كيف يمكن للكلمة أن تنقذهن من صمتٍ طويل.
في الليل، حين يذوب ضوء الكهرباء في ثنايا الغرف، تسمع خطواتها وهي تعبر من غرفةٍ إلى أخرى كأنها تبحث عن ظلها، تفتح دفتراً جديداً لتسجل وجعاً لم يُكتب من قبل، تضع الكتب قرب السرير كما لو أنها تحرسها من الوحدة، وتدرك أن الحلم سيكمل ما عجز النهار عن قوله، لكنها تعرف في سرها أن الأحلام لا تحتفظ بوجوهنا طويلاً، وأنها مرايا مراوغة لا تعكس سوى ما تريد هي أن تعكسه.
في السوق الكبير، كانت تسمع أصوات النساء وهن يساومن على السعر كأنه طقسٌ من طقوس البقاء، وكانت تلمح ارتعاش الأكياس البلاستيكية بين الأصابع فتقرأ فيها لغةً لا يجيدها إلا من عاش طويلاً في الهامش، وتعرف أن الشعر لا يكمن في قاعات الجامعات ولا في المنابر الرفيعة، بل في همساتٍ عابرةٍ تختبئ بين السمك والخضار، في انتظار يدٍ جريئةٍ تلتقطها وتحوّلها إلى بيانٍ آخر عن معنى الحياة.
ولم تكن تعيش اليوميات كعبءٍ متكرر بل كدهشةٍ مستمرة، ففنجان القهوة في المقهى الشعبي يتحول إلى قصيدةٍ مفتوحة، والشارع الممتد بين بيتها والبحر يصير سطراً طويلاً في كتابٍ لم يُختم بعد، حتى صمت الهاتف على الطاولة كان بمثابة جملةٍ معترضة على نصٍ غير عادل، لذلك كان كل شيءٍ حولها مشروع كتابة، وكل حركةٍ صغيرةٍ جزءاً من ملحمةٍ غير معلنة.
وفي نصوصها التي تبدو هادئةً كهواء الفجر، كان هناك دائماً بركانٌ يتأهب للانفجار، فهي تمزج بين السكينة والعاصفة، بين الطمأنينة التي توهم القارئ بأنه في مأمن، والصدمة التي تقتلع اليقين فجأة، كأنها تريد أن تقول إن الشعر ليس زخرفاً للزينة ولا خطاباً للترف، بل هو فن البقاء تحت الضغط، فن تحويل وجعٍ صغيرٍ في الأصابع إلى لغةٍ قادرةٍ على الصمود في وجه العدم.
الجهراء بفضلها لم تعد مجرد مدينةٍ عابرة، بل صارت بيتاً للقصيدة، صارت خشبة مسرحٍ تمشي عليها الكلمات وتتعلم كيف تظل على قيد الحياة، صارت مرآةً تتسع للنساء والرجال معاً، بل صارت أسطورةً جديدةً في خرائط الشعر العربي، حيث المرأة ليست ظلاً للرجل ولا صدىً لصوته، بل كاتبة النص الأول وصانعة الذاكرة ومنقذة الأرواح من الغرق في صمتٍ أبدي.
وأنا، من بعيد، رجلٌ في القضارف أكتب عنها كأنها تجلس الآن إلى طاولتي، أراها تمشي في نصي كما تمشي في شوارعها: بخطواتٍ هادئةٍ لكنها تترك وراءها زلازل صغيرة، تجعلني أرتبك كلما حاولت أن أكتب، وتجعلني أصدق أن الشعر ليس إلا شكلاً آخر من الخوف أو شكلاً آخر من النجاة، وأن المرآة التي تواجهها كل يوم ليست سوى مرآةٍ أواجه بها نفسي دون أن أجرؤ على الاعتراف.
سيدة من الجهراء، أنتِ لستِ في النص بل أنتِ النص نفسه، لستِ في المرآة بل أنتِ زجاجها المضيء، لستِ امرأةً عابرةً بل رمزاً يكتبنا جميعاً، وكل فنجان قهوةٍ في مطبخكِ هو معجزةٌ متخفية، وكل ورقةٍ في دفتركِ هي جزءٌ من ملحمةٍ ممتدة، وأنا مجرد شاهدٍ صغيرٍ على اتساعكِ، أكتب لأقول: إن الشعر يمكن أن يولد من يومياتكِ البسيطة ليصير ملحمةً تعبر من الجهراء حتى آخر صحارى الذاكرة.
المرأة و المرآة
I
في العباسية حيثُ الغبارُ ينهضُ مثلَ ملوكٍ منسيّين على أعتابِ السوق، أفتحُ نافذتي لأرى امرأةً تستيقظُ من زجاجٍ مكسور، تهزُّ مرآتها كأنها تهزُّ الأرضَ تحت أقدامِ المارة، أكتبُ في دفاتري أن الشعرَ وُلدَ من أنينِ الأحياء الفقيرة لا من قصورِ المدن، وأدركُ أن كلَّ جرحٍ في وجهِ المرآة هو سطرٌ من ديوانٍ لم يكتمل بعد.
II
أجلسُ في مقهى ضيّقٍ يختلطُ فيه عرقُ العمّال برائحة البنِّ الرخيص، أتأملُ انعكاسَ وجهي على ملعقةٍ من معدنٍ صدئ، فأرى أنني كُنتُ دومًا قصيدةً لم تتعلّم كيف تنغلق على نفسها، وأن المرأةَ التي تتأملني من وراءِ البخارِ لم تكن سوى استعارةٍ للعالم، وأن المرآةَ حينَ تنكسر لا تعكسُ سوى تاريخنا المُثقل بالهزائم.
III
في ليالي القضارف، حينَ تعوي الكلابُ كأنها أبواقُ حربٍ قديمة، أسمعُ أصواتَ النساءِ وهنَّ يخبزنَ القمحَ تحتَ أضواءٍ صفراء، وأدركُ أن القصيدةَ التي حلمتُ بها تنبثقُ من خبزِهنَّ لا من الكتب، وأن المرأةَ في مواجهتها للمرآةِ ليست أنثى وحسب بل كاهنةٌ تُعيدُ صياغةَ المصير، وأن السطرَ الطويل هو وحده القادر على احتواءِ كلِّ هذا الغياب.
IV
أكتبُ عن جسدي كأنني أكتبُ عن مدينةٍ محاصرةٍ بالأسئلة، أكتبُ عن المرأة التي تمشطُ شعرها أمامَ مرآةٍ مشروخةٍ كأنها تمشطُ ذاكرتنا الجمعية، أكتبُ عن الطرقِ الموحلة التي تتقاطعُ في الحي كخيوطٍ مقدسة، أكتبُ عن صوتي وهو يتشظّى في الزقاق مثلَ زجاجٍ مُبعثر، وأكتبُ أن الشعرَ لا يبرأ من العطب بل يقتاتُ عليه.
V
في العباسيةِ يتجاورُ العطشُ والضحكُ مثلَ عاشقينِ بلا موعد، يُصلي الأطفالُ في ترابٍ يابسٍ ثم يرسمونَ أحلامهم على الجدرانِ بالفحم، هناكَ فقط أدركُ أن المرآةَ ليست سوى نافذةٍ على الخيال، وأن المرأةَ التي تستلقي أمامها تحملُ في جسدها خرائطَ العالم، وأن القصيدةَ لا تحتاجُ إلى موسيقى سوى صرخةِ الحيِّ عندَ انقطاعِ الكهرباء.
VI
يا مرآةُ، يا خائنةً مثلَ ذاكرةٍ لا تعترفُ بدموعِنا، لماذا تُعيدينَ وجهي كغريبٍ على جسده؟ لماذا تجعلينني أرتجفُ كأرضٍ تُدركُ زلزالها قبلَ أن يقع؟ لماذا تزرعينَ في داخلي امرأةً لا أعرفها لكنها تعرفُني أكثر من نفسي؟ لماذا تُلقينَ بي في نصٍّ يتجاوزُ قدرتي على النسيان؟ ولماذا أظلُّ أكتبُ وأنا أعرفُ أن الكتابةَ لا تُنقذ أحدًا؟
VII
في الليل، حينَ تذوبُ القضارف في صمتٍ يشبهُ البكاء، أعودُ إلى دفاترٍ قديمةٍ كتبتُها على ضوءِ مصباحٍ متهالك، أجدُ أن كلَّ سطرٍ منها كان يفتّشُ عن امرأةٍ تبتسمُ من وراءِ الزجاج، وأن الحداثةَ ليست شعارًا بل طقسًا من الطينِ والدم، وأن الشعرَ في جوهره هو القدرةُ على أن ترى وجهكَ يتهشّمُ ثم تُعيدُ جمعهُ من جديد.
VIII
المرأةُ في المرآةِ لا تبتسمُ لي، بل تسألني: أيها الشاعر، ماذا فعلتَ بأيامك؟ ماذا فعلتَ بذاكرتك؟ هل كتبتَ عن الذين رحلوا في مواكبِ الجوعِ والعراء؟ هل دوّنتَ أسماءَ العابرينَ في زقاقٍ يبتلعُ أصواتهم؟ هل أدركتَ أن الحداثةَ ليست حداثةً ما لم تلمسْ أقدامُها الطينَ الذي نغرقُ فيه كلَّ يوم؟!.
IX
أتمشّى في السوقِ الكبير حيثُ الفوضى هي القصيدةُ الوحيدة الممكنة، أرى المرآةَ في عيونِ الباعةِ المتعبين وهم يساومونَ على ثمنِ الرغيف، أرى المرأةَ في خطواتِ المارةِ وهي تُوازنُ بينَ الحلمِ والرغيف، أرى وجهي وقد تحوّلَ إلى نصٍّ مكتوبٍ بالعرق، وأدركُ أن الشعرَ لا يُنقذُ أحدًا لكنه يمنحُ الخسارةَ معنى.
X
أيتها المرآةُ، تعالي لنكتبَ معًا اعترافًا لا يعرفُ الغفران، اعترافًا يليقُ بمدنٍ احترقتْ في صمت، اعترافًا يليقُ بشعرٍ يتكسّرُ مثلَ أمواجٍ على شاطئٍ بلا عودة، اعترافًا يليقُ بامرأةٍ تستلقي أمامكِ كحصانٍ جامح، واعترافًا يليقُ بي أنا الذي اخترتُ أن أبقى سجينَ هذا السطرِ الطويل.
XI
في العباسية، تُضيءُ المصابيحُ بالكادِ زوايا الحي، لكن المرأةَ في المرآةِ تضيءُ عالمي كله، هي القصيدةُ التي لا تُشبهُ سواها، هي الحلمُ الذي يتكسّرُ كلما حاولتُ الإمساكَ به، هي المرآةُ التي لا تنعكسُ بل تُعيدُ ترتيبَ دمائي، هي الكتابةُ وقد تحوّلتْ إلى قدرٍ لا يُقاوم.
XII
أمشي في الزقاقِ وأشعرُ أنني آخرُ الشهود، أسمعُ أنفاسَ الأرضِ وهي تختنقُ بالغبار، أسمعُ أصواتَ الصمتِ وهي تُحاورُ نفسها، أسمعُ المرآةَ وهي تتصدّعُ من ثقلِ التاريخ، وأسمعُ المرأةَ وهي تُعلنُ أن الشعرَ ليس خلاصًا بل فضيحة.
XIII
كلُّ شيءٍ هنا يتحوّلُ إلى رمز: الرغيفُ كتاب، والماءُ سفر، والترابُ ذاكرة، المرأةُ مرآة، والمرآةُ تاريخ، كلُّ شيءٍ يكتبُ نفسهُ من جديد، كأن العباسيةَ هي المركزُ السريُّ للحداثة، وكأن القضارفَ لا تُطلُّ على شرقِ السودان بل على صحراءِ اللغة، وكأنني أعيشُ داخلَ استعارةٍ لا تنتهي.
XIV
أما أنا فأظلُّ مُحاصرًا بوجوهٍ لا أستطيعُ نسيانها، مُحاصرًا بمرآةٍ لا أستطيعُ كسرها، مُحاصرًا بامرأةٍ لا أستطيعُ احتواءها، مُحاصرًا بسطرٍ لا أستطيعُ إغلاقه، ومُحاصرًا بشعرٍ يُفتّشُ عن خلاصٍ لا وجودَ له.
XV
يا مهرةً مستلقيةً أمام المرآة، يا قصيدتي التي لا تنام، اجعلي من وجهي كتابًا آخر، اجعلي من العباسية مملكةً أخرى، اجعلي من القضارف عاصمةً أخرى، اجعلي من المرأة والمرآة بيانًا جديدًا للشعر، وامنحيني القدرةَ على أن أكتبَ ما لم يُكتب بعد.
____
يونيو 2019
حي الصحافة - الخرطوم


تعليقات
إرسال تعليق