مجموعة قصصية : بدايةٌ جديدةٌ لقصة قديمة
مصعب
الرمادي
بدايةٌ
جديدةٌ لقصةٍ قديِمة
_
الكتاب : بداية جديدة لقصة قديمة
الكتاب : بداية جديدة لقصة قديمة
الكاتب : مصعب الرمادي
تاريخ الطبع : مايو 2018م
حقوق الطبع والتأليف محفوظة
__
* إلى صديقي القاص السوداني/ عثمان شنقر
___
بداية
ٌجديدة ٌلقصةٍ قديمة
تستطيعون جميعكم تخمين ما
قد حدث .
ليس من الضروري أن تكونوا قد اضطلعتم من على قبل هذه القصة أو حتى ان تكونوا قد سمعتم من بعيد او من
قريب عنها فتعرفتم عن كثبٍ على أحداثها و ووقائعها التي امتزج فيها الخيال بالواقع
، وتقاطعت فيها الحدوس والمشاعر واشتبكت فيها العلاقات و قفزت شخصياتها من
علي سياج حقيقتها الفنية المحضة إلي حبكة حقيقتها الواقعية بكل حيويتها وسخونتها
بحيث أصبح من العسير التفريق بين كونها حبر ٌمكتوب ُعلى الورق وبين كونها دم حارٌ
جرى بعد ذلك بين أوردة وشريان أبطال حكايتها الوهميين أولاً ثم أبطالها
الحقيقيين بعد ذلك. ولكن لكم الحق أيها السادة في نهاية الأمر إن لم تصدقوا حرفا
واحدا مما حدث بعد ذلك ..!!.
***
يقول الراوي ان السيدة سعاد
إبراهيم بطلة القصة بعد ان تزوجت انفصلت من زوجها الأول ؛ وان بطل القصة زميلها
السابق في العمل أفاق بعد غيبة طويلة من صدمتها العاطفية الشديدة بسبب ذلك الانفصال, الأمر الذي جعله
يقلعُ عن انغماسه في تجربة تعاطي وإدمان المخدرات, وكان ذلك بفضل فترة تواجده مع
نفسه لمدة أطول بالمستشفى ، بسبب ان سيارة مسرعة قد دهسته في صباح ذلك اليوم الذي
فيه قد رأى بأم عينه السيدة آمال مع زوجها الاول وهما في طريقهما في احد شوارع
المدينة . هكذا خرج من المستشفى ليكتب له القدر بداية جديدة للنهاية المأسوية
للقصة السابقة .
***
لم يكن "مقهى حميدة" هو المكان
الوحيد الذي كان البطل يلتقي فيه بحبيبته آمال قبل الزواج بل كان هنالك أماكن أخرى
أكثر رحابة وحميمية وألفة مثل كازينو النيل الأزرق , الذي خطر على بال الراوي ان
يجعله المكان المناسب الجديد للبداية الجديدة للقصة, غير ان كل محاولات الراوي
التأصيلية في سياق ذلك الموضوع لم تنجح , لانه لسبب بسيط هو انه لم يجد من
الشخصيات التى عرضت على نفسها دور البطولة في القصة السمات اللازم توفرها لتنفيذ
العمل على ارض الواقع كما ظل يردد دائما في العديد من مؤتمراته الصحفية .
***
لم يكن الراوي يدري ماالذي أصاب
الناس جراء الولع الشديد بالتمثيل في تلك الأيام التي كان يفكر فيها إخراج القصة
الى فلم سينمائي ؛ ربما لان للتمثيل قدرة أكثر من أي جنس آخر في الكشف عن
الجوانب الحياتية والثقافية والوجدانية للإنسان . لكنه كان يدري بان قصته ككاتب
وراوي في ذات الوقت قد لاقت رواجاً شعبيا واسعا بعد ان صارت حقيقة ماثلة لدى
الكثير من أولئك الذين كانوا قد فتنو بشخصية البطل اوشخصية البطلة مدام آمال
, ولا يزعم في هذه العجالة ان هناك بطل واحد استطاع أقناع مخرج الفيلم السينمائي
المتوهم بخلاف ماكان يخطط له فريق عمل الفيلم .
***
لم تكن حنان عثمان صورة طبق الأصل
من بطلة القصة سعاد إبراهيم ، غير إنها وجدت في الخلاف الذي شب فجأة بينها وزوجها
فرصة لطلب الانفصال عن الحياة معه . الراوي لم يكن حاضراً في محكمة الأحوال
الشخصية عند ذهبت حنان الى هناك لكنه استبعد ان تكون للسيدة آمال دوافع كحنان في
طلب الانفصال . عموما يمكننا القول مع جمهور النظارة الذي كان يشاهد تفاصيل
تلك المسرحية ان زوج حنان السابق لم يرضخ لمشيئتها في البداية لكنها وافق في
النهاية على الانفصال عنها بحجة انها زوجة مقرفة وثرثارة . هذا ويقول راوي القصة
الجديدة ان زوج حنان السابق كان قد أنفق الكثير من المال لمجرد انه كان يريد
ملاقاة السيدة حنان للنقاش في تفاصيل غاية في الأهمية يزعم انها تهمه في موضوع
القصة القديمة .
***
لم يذكر الراوي او أي شخصية أسندت
الى نفسها دوراً ما في القصة السابقة ، لم يذكروا جميعاً أي جديد عن موضوع أماني
حبيبة البطل السمراء اللون الهادئة الطباع والتي كانت ومازالت في قريتة البعيدة في
الريف ؛ غير ان أم البطل الحقيقي اشيع عنها ان روت لمخرج الفيلم ان ابنها
العزيز عندما زار القرية قبل شهرين من إنتاج القصة الجديدة كانت قد زودته بأخبار
أهالي القرية الذي كان يحبهم ويحبونه ومن ضمن أولئك الصبية الوادعة السمراء أماني
.
***
يقولون ضمن ما يُقال عن القصة
القديمة ان شلة الأنس التي كان البطل يسهر ويتعاطى معها المخدرات قبل أكثر من
سنتين كانت قد أقلعت تدريجياً من تلك العادة المهلكة والمتلفة للمال والأعصاب ،
ولا يدري أحد سوى الراوي والسيدة آمال بطلة القصة الرئيسية الوازع الديني
والأخلاقي والثقافي العميق الذي دفعهم جميعا دون استثناء كما تقول بقية
القصة- الى ارتياد المساجد وإمامة المصلين في صلاة الجمعة والعيدين وزيارة
الأرحام والنهي عن المنكر والأمر كذلك بالمعروف !. وبرر الكثيرون ذلك
السلوك بأنها ردة من جانب الشر الى جانب الخير . وما كان دافع السيدتين
آمال وحنان في جديد أفعالهما سوى الرغبة الجارفة في تعويض الفشل الأول في
تجربة الحب الحقيقي , وربما في اختيارهما الصحيح لشريك حياتهما وفي الاعتناء
بنفسهما ؛ فقرروا مجتمعين لتلك الأسباب مدفوعين بتلك الدوافع البدء الفعلي في
مشروع جديد يعيد الحياة الى مجاريها الأولى في كل تفاصيل ودقائق القصة القديمة
الجديدة .
يناير2010م
_
بيتُ
العنكبوت
(1)
كدت ليلتها أصرخ في وجه الظلام
الدامس
_ يارب ألطف بعبادك الضعفاء !.
غير أني في اللحظة الأخيرة عدلت
فجأة عّما كنت أزمع القيام به . كان ثمة دافع قوي يدعوا الجيران في ذلك الحي
الشعبي الهادئ في الخرطوم إلى متابعة ردود أفعالي الواثقة والبصيرة حيال
المشاكل المتلاحقة التي كانت تهبط على يافوخي جراء أسباب ليس لي ضلع في
حدوثها أو جعلها على الأقل تتوقف فيقعوا هم معيِّ ضحية لها . لكني منذ تلك الليلة
بالذات لم اعد احفل بهم ،وما عاد يعنينني كثيرا سخطهم الهامس اوالمعلن
أحيانا عليِّ بسبب الفوضى التي كانت تحدث في بيت الإيجار الذي جعله صديقي
محمد عبدالرحمن مسرحاً لحريةٍ غير مضبوطة بعلاقات عاطفية مشبوهة ومغامرات جنسية
سافرة بينه وبنات من الطبقة الوسطى لهن نوازع غير شريفة للقفز فوق المراحل وغير
ذلك ، ولم يكن هناك مسوغا واحدا يضطرني فيما بعد ذلك للاستمرار في ترددي شبه
الأسبوعي على ذلك المكان الأليف بالنسبة ليِّ . في البداية لم أقرر الانسحاب
من الموقف مفضلاً أن أتابع ما يمكن أن تسفر عنه حكاية البنت مريم شريف وهي أكثر
البنات شراسة وقدرة على البقاء على سطح الأحداث الغريبة , فلقد كانت تقوم بطهي
الطعام وكنس فناء البيت ومن ثم المبيت ليلا مع صديقي الهمام السيد محمد عبدالرحمن
, كان ذلك غريبا ومغرياً وجديدا على ِّ. اذكر جيداً الآن أني قد لمحتها ذات
صباح في ذلك البيت وهي شبه عارية من ثيابها قبل أن تستعيد رباطة جأشها وتحضر أكوب
الشاي الساخن و تحزم متاعها وترحل من هناك .كانت ناعمة الخضرة نحيلة ذات وجه يجبرك
على الدنو منها وسماع حكايتها مع المكان منذ البداية . كانت المدينة الكبيرة
تثير في نفسي كثير من أمارات التعجب للكثير من مظاهر السلوك المتحرر الذي
مسخ كثيراً من قناعاتي الفطرية البسيطة عن سلوك كثير من بلدان العالم
المتحضر وخاصة أولئك الذين لا يجدون في دواخلهم كوابح حقيقية وفاعلة تجاه مايحدث
من تغيير مضطرد في حركة الحياة والمجتمع من حولهم جميعا . وقد كنت انتظر في
ذلك البيت على الباب ريثما يخرج صديقي محمد عبدالرحمن بالجديد المثير الخطر !.
(2)
يعرف سكان تلك المنطقة التي اقطن
فيها لفترة عملي المؤقت بالخرطوم مدى المجهود الجبار الذي بذلته لأصلح
الخلاف غير المهذب الذي نشب فجأة بين مريم شريف وصديقي العزيز محمد عبدالرحمن
،والذي تلفظت فيه مريم شريف بكلمات بذيئة وجارحة فى حق محمد عبد الرحمن
وخرجت ولم تعد بعدها ، مماجعل الأمور تسوء بعد ذلك بينه وصاحب البيت والجيران ,وقد
كان علي أن أضع نهاية ما
للعنف الذي يمكن ان يحدث جراء
التحام احد الطرفين مع بعضهم البعض لان ذلك يضعه دائماً في مغامرة ان يفقد
البيت الذي يسكن فيه , والذي كنت أعلم مدى المعاناة التي تجشمها لكي يعثر عليه ,
لكنه ظل كعادته الساخرة من تلك الامور لم يعبأ بتحذيراتي المتكررة معتبر
البيت بيت من بيوت العنكبوت الواهية الضعيفة , اذ كان لا يعتقد انه مكان مناسب
لمنزلته الكريمة مع نفسه , ولكنني كنت أعلم ان مريم شريف هي أنثى العنكبوت التي
تقوم بنسج الخيوط بشبكة متماسكة في هذا البيت للقبض على فرائسها التي تحاول سرا
الحيلولة بينها وفحلها الصَّب محمد عبدالرحمن . والحق أقول انه لولا المدعوة
مريم شريف لتكاثرت الحشرات في بيت العنكبوت وأتت على الأخضر واليابس بحيث تزيد من
إمكانية الفوضى الضاربة بأطنابها أصلا ً في تلك المنطقة .
(3)
كنت أدرك أن تجربة صديقي محمد
عبدالرحمن في العمل وجلب الثروة ومغامراته العاطفية والجنسية المتلاحقة مع
النساء بالمدينة هي من أكبر المواضيع التي تشدني للاقتراب أكثر من عوالم جديدة
كانت مجهولة بالنسبة لي في السابق ،وهو الأمر الذي حفزني للنظر للحياة بنظرة
مختلفة من خلال مقعد المتفرج الذي يقف بعيدا يراقب ويتأمل عميقاً في ما يمكن أن
يضيفه هذا الجديد من مشاعر الدهشة والاستغراب والعجب . فقد كان لمحمد عبدالرحمن
طاقةٌ جبارة في جذب انتباهي خاصة لما كان يتمتع به من لباقة شعبية في الحديث وفي
التحاور مع خصومه وصرعهم في شباكها العنكبوتية بحيث لايمكن للمشاهد العادي ان يفرق
بين الشاهد والضحية في ملهاة أباطيله وحيلها الكثيرة .
(4)
أذكر عندما قمت بزيارته في محل
عمله بالتصنيع الحربي كان يرسم لي صورة جديدة لما ينبقي علىَّ تجاوزه من
قناعات بالية فرضاتها علي قيود ٌ متزمتة وعبرتها بسلام إلى معركة تقاليد جديدة أكثر
رحمة من سابقتها ؛ كانت بداخله روحا ليبرالية على العمل فلقد كان يعمل قبل فصله من
مكان عمله الأول على دوام طويل واحد يستمر الى 18 ساعة أحيانا ، فقد كان دائم
الخلاف مع مع أصحاب العمل ومدراه ففقد لذلك السبب عمله الأول ليعمل بعد ذلك
في أماكن متعددة من القطاع الخاص فعمل في مصنع الكوكاكولا ومن ثم مصنع البسكويت
وغيره من الأعمال التي صنعت خصيصاً لتناسب شخصيته المتمردة . ولقد تعرفت من خلال
أعماله تلك على حياة العمال ومتاعبهم ومطالبهم العادلة في العمل ، وقد كانت مريم
شريف تطل من خلال كل تلك الإحداث تدافع عن ذلك المشهد بشراسة وقوة مما كان يدفعني
للتفكير العميق في المخلوق الذي كان يرفض كل العوائق التي تقف وراء تحقيق طموحاته
والمدعو صديقي : محمد عبدالرحمن .
(5)
ربما لم يحن بعد زمن التغير
والتحول ، كنت أرى ما أريد لكن شيئا لم يتغير بالخارج ، دواخلي كانت مشحونة بإرادة
قوية لا تغلب وكذلك كان صديقي محمد عبدالرحمن ,ولم تكن المدينة على ما يبدو
تتسع لطموحاتنا ورغم القناعة الراسخة في الظروف والأحوال إلاّ أن هناك
دوافع كبيرة تجعل من محمد عبدالرحمن شخصية على النقيض من شخصيتي وذلك في انتهاجها
لطرائق غريبة في تغير الحال نحو الأحسن بحيث يمكنه بسهولة ان يحول الفقر
المدقع لدرجة الحاجة الى معاونة الآخر ومعونته الى يسر وغنى نسبي ِّ يجعل النسيم
البارد يهب من نوافذ حياتنا الكالحة ؛ رغم في هذه النقلة من تحفظات كبيرة
بالنسبة ليِّ لان بها مابها من لحظات نزق وطيش لا أوافق عليه , علاوة على
مرورها بلحظات سعادة عابرة غير شريفة لكنها شديدة الإثارة والمتعة . ولعلي
وانأ اقترب من نهاية تلك الأيام التي قضيتها معه فقدت القدرة على أن يكون لي
ِّموقف واضح حيال مواقفه المتقلبة من أقرب الناس في علاقتنا معاً وأولهم
وأهمهم على الإطلاق شخصية مريم شريف .
(6)
قبل أن يغادر صديقي محمد
عبدالرحمن إلى أمريكا كان قد ترك لي رسالة طويلة مع صاحب ملحمة الانتفاضة ووصية
شفوية مع صديقنا إدريس صاحب مكتبة الصحوة مفادها انه وجود الفرصة ولن يضيعها ؛ وان
مريم شريف لم تخسر رهانها في الحياة عليه بل أنها على العكس من ذلك ربحته وربحتني
وقد كان يعنيني . مرت الأيام سرعاً بعد رحيله عن البلاد وتغيرت معها قيم
ومفاهيم لتحل بدلا عنها تقاليد مستحدثة لا ناقة لي ولا جمل على إلجامها او كبح
جماحها , لكن ظلت مريم شريف وفيِّة ومخلصة لتلك الأيام ولم تُضيع سنوات العرق
والكفاح والجهد المتواصل نحو هدف عزيز المنال وصعب التحقق .
فبراير 2010م
___
قمرُ البَّرِ
والبَحر
(1)
كان شمس الدين يمشي على شاطئ
البحر الأحمر ؛ يتهادى في مشيته وهو يرقب الأمواج التي كانت تركض نحو الساحل ثم
تهرب الى أعماقه في مد وجزر . كانت بورتسودان- ثغر السودان الباسم تحتفي بقدومه
عليها أي احتفاء , فأي ولع ٍ غامضٍ بالمكان كان يخبئه شمس الدين للمدينة ! , وأي
مشاعر ودٍ خاصة كانت تحملها هي له وقد ترامت خلفه في ذلك اليوم الشتائيِّ
الفاتن !. ربما كانت أخبار الجنيات وحوريات البحر التي تخرج من مخابئها في
الأعماق القاصية بين الفينة وألاخرى هي التي كانت تحظى بعميق اهتمامه, على الأقل
إنها كانت تخرج من مُخيلة من كانوا يجدون المتعة والإيناس في سرد وحياكة مثل تلك
القصص . ولقد كانت قمر سيدة قلبه وملكيته المتوجة تُعّرش بوجدها اللامرئي على كل
تلك الأجواء , فتخرج إليه من شواطئها المهجورة الى اليابسة تغويه برائحة أعواد
"الكَبَرّيت" المحروق لابسةَ فستانها الأخضر الطويل وهي تضج
بأسئلة الوجود الكبرى ؛ وقد كانت كذلك كما كان يتهيأ له أنها يراها على هيئة عروس
البحر نصفه سمكة ونصفه الآخر إمرأة بوجه مضيء كالقمر ٌ وبشعر طويل اسود حالك ينجر
على جسدها البض حتى يبلغ الأرض الرملية , ولقد كانت تدفعه أناء الليل وأطراف
النهار بغوايتها الطاغية نحو أعماق البحر وهو يزعن ويستسلم ويرفع لها رايته
البيضاء ، غير انه في عرض البحر كان يقف عند ذلك الحد فيقلع عمّا كان يريد
على صياح النوُتية والبحارة به وعلى زعيق السفن والنوارس البحرية التي
كانت تحُوم في الأفاق .
(2)
لم تكن الأيام التي قضاها شمس
الدين بكسلا كافية ليملأ إحساسه الداخلي بالوحدة والعزلة الشاملة ؛ فقد كان يحس
بنوع من العزلة الفردية التي يعقبها حنينٌ جارف لاكتشاف الأخر الذي يحاول
سبر غوره بفتح سؤاله الوجودي والإنساني العصيِّ . وقد كانت "قمر" قمراً
بحق للبر المترامي الأخضر في توتيل والتاكا والسواقي الجنوبية وضريح سيدي الحسن
مثلما كانت قمراً للبحر الذي تركه خلفه ورحل ؛ لكن ذكريات مدن الشرق التي مر بها
معها مثل " هّيا وجبيت درديب وطوكر واروما وغيرها" كانت ومازلت حاضرة في
تفكيره وأحلامه وكوابيسه مثل حضورها الدائم فيه ؛ أما سواكن فكانت حبيبته "
قمر "تربض معه في قصرها الأسطوري المنيف كأجمل ماتكون المحبة ، اذ كانت
مخيلته المتوهجة تبنيه حجراً حجرا في كل غرفة من غرفه التي يبلغ عددها بعدد
أيام السنة الكبيسة التي كانت تمر بثوانيها الكالحة عليه .
(3)
على مد البصر في التلال والسهول
الخضراء في القضارف كانت "قمر" تتمدد ؛ تتوسط سماءها الزرقاء بدراً
منيراً كاملاً ؛ فقد كانت تأتي مع صوت المناجل في حقول الذرة البيضاء والسمسم
وعباد الشمس ومع أغنيات وأراجيز العُّمال الموسميين في أعياد حصاد الأرض ؛
مشقشقة كالعصافير الخريفية الملونة الجميلة على أغصان عمره الوارفة . كانت تتسلل
الى داره في الليالي المطيرة كغلالة بيضاء رقيقة , تواسيه وتخفف عنه وتشمل أهله
بصنوف لامثيل لها من السكينة والعزوبة والحنان . لكن محي الدين الشقيق الأصغر لشمس
الدين لايكاد يحس بشيء مما كانت تفعله" قمر "بالدار ؛ كان منطوياًُ على
نفسه ، وقد كان ظل شمس الدين الذي لايشبه هيئته في أوقات كثيرة في ساعته الرملية
التي كانت تفتح فيها قمر البر والبحر نافذتها الخضراء كل
مساء على المدينة صوب دنيا جديدة عميقة الغور وصعبة الإدراك !.
(4)
أي حورية حسناء تلك التي خرجت من
جنتها , وأضجعت بالحديقة جهة النهر ثم قطفت تفاحة حمراء من الشجرة ثم نادت بكل
حلوى رغائبها عليك ؟!. يقول شمس الدين دون تردد انها "قمر" كانت تتمثل
بهيئات مختلفة من المخلوقات في الزمان والمكان , ولقد كانت في بورتسودان بعد هجرت
حياة البحر في زي نساء الهدندوة وعلى انفها الزمام ، ويخيل له انه رآها في
السّاريه الهندي ببطنها الملساء المكشوفة بالحي الهندي قرب حي السوريبة في كسلا ؛
غير انه يخشى ان تكون هي "قمر" التي ذهبت الى حليمة صديقتها بحي التضامن
بالقضارف وافتعلوا شجارا حاميا عن الوحدة والاشتراكية وعن الحرية الحمراء التي
كانت يداها الملطخة بالحناء تدق على أبوابهم تلك الليلة بعنف !. لقد كان الحاضر
المستمر بمرئياته المتداخلة يأخذ بجماع ذهن وتفكير شمس الدين ؛ اما
محي الدين فقد فتح الباب على مصرعيه وخرج ولم يعد الى في وقت متأخر كعادته الجديدة
الغريبة في تقدير أهل البيت وأخيه شمس الدين .
(5)
الخالق الناطق !. . هكذا كانت
صورة شمس الدين الخارجية تشبه الى حد بعيد صورة شقيقة الأصغر محي الدين ؛
فشمس الدين كان شخصية اجتماعية ,منبسطة على الخارج . حيوية وسهلة المعشر اما شخصية
محي الدين فقد كانت على النقيض منه فهي سلبية وعصابية. حريصة ولايعتمد عليها
كثيراً . وهكذا كان الرماد عند شمس الدين هو المستقبل الأكيد لنارها اللافحة
الملتهبة , كما قالت حليمة عن "قمر" ذات يوم ما بطريقة ما شعبية
ومختصرة وملتوية . ويحكى انها- أي حليمة كانت روت انها قد رأت " قمر" في
كسلا وعندما عرفتها وعرفت بحدسها الدقيق أخبارها فرت منها الى أروما ؛ وقالت
بالحرف الواحد انها ربما كانت تخدع شمس الدين بمحبتها ؛ وربما قال هو في سره ان
حليمة صديقة " قمر" الوحيدة كانت تكذب لشيء في نفسها عليه
لكنه ظل يعزي نفسها كلما
رأها بترديد عبارتها : " الخالق الناطق " ؛ كأن الفة غامضة غريبة كانت
تجمع على نحو سري بينها وشخصية "قمر " المنضبطة والمسالمة
والمستجيبة بسهولة للمتغيرات.
(6)
لا أحد يستطيع أن يخطف اللقمة من
فم أخيه ليأكلها وحيداً مستمتعاً بها في الكهف!. لكن محي الدين كان في
مقدوره دون ان يخالجه أي إحساس بالذنب ان يفعل ذلك ؛ ولقد شمس الدين بالنسبة
للكثيرين كمثل الأعمى الذي يحمل فانوسه المضيء في النهار حتى يعرف الناس أن
الليل قادم على المبصرين لامحالة . فلقد رفع ذات الفانوس في ليلة ما داخل راكوبة
البيت المظلمة ليرى محي الدين وحيدا يأكل البطيخ ,
وعندما رآه صاح في فيها : "
انك اخضر وهي حمراء وتلك هي المشكلة !. " ثم انتابته موجة من الضحك الهستيري
الذي دفع شمس الدين على المقارنة بينه وحبيته " قمر " التي عرف إنها
كريمة لدرجة كبيرة وان عليه قدر ما يستطيع ان يكون كريم مثلها هو كذلك !.
(7)
إنزهل شمس الدين ذات يوم ما
كثيراً عندما عثر على صورة " قمر" تحت وسادة محي الدين . كانت الصورة
ملونة ومشرقة وقد كانت " قمر " تبدو فيها مازحة على غير عادتها الجادة
مع من لا تعرفهم جيدا ؛ ولقد كان يطل من وجهها المضيء الحبور و السعادة الغامرة .
ولمّا كان لا أحد بالبيت يعلم من هي" قمر "ولماذا كانت صورتها تحت وسادة
محي الدين فقد اكتفى بأخذ الصورة من مكانها ولم يفتح فمه بكلمة واحدة مع محي الدين
.
(8)
الزمن يجري . والأقدار بيد الله
!. كانت حليمة أكثر المخلوقات التي عرفها شمس الدين أحساساً بالموت
ومن دنوا أجلها على المرء في أي لحظة من اللحظات . وقد كانت "قمر"
حبيبة شمس الدين " الروح بالروح " تسكن مع حليمة في أحاديثها العابرة
بجلسات القهوة في السوق الكبير ؛ وقد قالت له فاطمة جادين ان " قمر "
ذهبت الى الاُّبيض وان أقربائها بلغوها إنها ربما تزمع السفر الى أنجمينا بتشاد .
ولقد كان كلاماً غريباَ في نظر حليمة وشمس الدين . لكن " قمر " لم تأتي
بعدها الى شرق السودان . ولقد شرع شمس الدين للاستجابة للدواعي التغيير الجديد على
حياته . ولقد حاول بجد النسيان . رغم دقات قلبه الكليم .
يناير2010
__
نجمة
ُالصَّباح
(1)
في السديم الكوني البهيم خارج
نطاق حدود كوكب الأرض كانت المركبة الفضائية السودانية حراز 2010 تمخر عباب
البحر الأسود المتلاطم . في سعيها المستمر نحو الوصول إلى نقطة مشتركة في
الزمن النفسي والوجودي يسمح لها بأن تجمع في عقاربها المتسارعة نحو الأمام
كل من كان على متنها في ذلك الفصل الربيعي من فصول السنة الضوئية الجديدة على درب
التبانة . ولقد كانت الأرض أكثر إحتفاءاً بأبطالها الذين غابوا عنها لا أكثر من
ستة شهور في الفضاء الخارجيِّ ؛ في الوقت الذي كانت فيه أخبار الكون السيارة تبث
تقاريرها الساخنة عبر شاشتها العملاقة عن قصة الحب الجميلة التي جمعت بين بطليها
سارة ومبارك . وفيما كان وميض المركبات الفضائية العابرة يتعالى ثم يخفت تدرجياَ
وهي ترسل على بعضها البعض أبواقها الزاعقة بين الفينة والأخرى كان مبارك
وسارة يمسكان بدربة وحذق مقود المركبة ، وقد كان السفر مهمة سهلةً وصعبة ً في آن
واحد معاً حسب الحالة النفسية التي كان الراوي يسرد فيها تفاصيل تلك الرحلة
العجيبة لذلك العالم الفضائي المسحور .
(2)
في كافتريا الأماني العريضة بكوكب
المشترى هبطت المركبة حراز2010 لخمسة وثلاثين دقيقة كاملة وذلك لتناول النقانق
الحارة والمرطبات ريثما تواصل السير من جديد الى كوكب الأرض ؛ وقد كان الشعور
السائد لدى المسافرين في ذلك الفضاء الهيوليِّ الشاسع ان رحلة العودة الى الأرض
أكثر يسراً وسهولة ً خلاف ما كانت عليه الرحلة الأولى والثانية لدى سارة ومبارك في
اكتشاف كواكب ونجوم المجرة ابتدأ من "بلوتو " آخر كواكب المجموعة
الشمسية, حتى كوكب المريخ اقرب الكواكب للأرض عكس اتجاه موضع الشمس من الكرة
الأرضية .
(3)
كان لسارة غرامٌ وفضول كبير
لاكتشاف الفضاء الخارجي منذ نعومة أظافرها؛ فوالدها الذي رعاها في وكالة الفضاء
السودانية كان أحرص الناس على تلقيها كل فنون المعرفة العلمية بالفضاء , وقد قاتلت
سارة بمهارة وقوة وهي طفلة كل وحوش الفضاء وأشراره الذين حاولوا الهبوط الى
كوكب الأرض للقضاء على مخلوقاته وتدمير بنى الحياة الآمنة فيه ,وذلك عبر مشاهدتها
لقصص والعاب الخيال العلمي في قنوات "شباب المستقبل " و " اسبيستون
" وغيرها مع أبطالها الشجعان مثل " القرنديزر " و " السيف
البتار " و " قاتل الأشرار " وقد ألهبت كل تلك القصص
والألعاب مخيلة وقريحة سارة وجعلته أكثر قابلية لتلقى شعرية وجمال مشاهد الفضاء
الخلابة والذي كان يرعى ثمار الفراولة الحمراء من خلال نافذة المركبة حراز
2010 المتجه نحو الأرض قبل عبورها بمجال كوكب المريخ في اول يوم من شهر مارس
من السنة الميلادية الجديدة .
(4)
كل شيءٍ نسبي وغير مؤكد , وهو في
حاجة مستمرة وأكيدة لإحتمال الخطأ والصواب عند تقدير نتائجه .. هكذا تعلم مبارك في
كلية الفيزياء الفضائية وأصبحت قناعاته أكثر اتساقاً مع أكثر النظريات العلمية
رصانةً وموضوعية في هذا المجال ؛ وربما كان يتوق بعقله الراجح وعاطفته المتزنة الى
ان يصير رجل " سوبرمان " بما لديه من مهارات وخبرات في ارتياد هذا
المجال , وبما لديه من قدرة فائقة على الإحاطة بدقائق الأمور فيما يتعلق بالسفر
عبر الفضاء والزمن بجانب قدرته على الخيال التأملي الذي جعل المهام الملقاة على
عاتقه من وكالة الفضاء السودانية سهلة ومذللة ومليئة بالمغامرة العلمية والإثارة
!.
(5)
على سطح المحيط الهادئ في تمام
الساعة الثالثة والربع صباحاً هبطت المركبة الفضائية السودانية حراز2010 . كان ثمة
وجوم مطبق في الأفاق ، لكن الهبوط تم بسلام فشرعت قوارب الانتشال وفرق الإنقاذ
لتحمل من كان على متنها الى اقرب شاطئ على المحيط ؛ الذي كانت مياهه حانيةً ووديعة
في ذلك الوقت من العام , وقد كان ذهن مبارك يعمل كروبرت بشري مدرب بصبر وجلد وإرادة
فولاذية ؛ اما سارة فقد كانت شبه نائمة او مذهولة بذلك السحر الكوني العميم
للكائنات مملكة الفضاء ومن ثم مملكة البحر !.
(6)
مثل زرقة البحر
الهادئ او كالاقحوانة البيضاء المتفتحة كانت النجوم بفصوصها
الماسية تتلألأ وتضوي من بعيد ..
وقد تبدو في الليالي التي يغيب عنها القمر اكثر نصاعة ووضوحاً في وجه السماء
الصافية . لكن تلك النجمة أللامعة التي تلوح في الصباح كانت هي اكثر الأجرام
السماوية التي استرعت انتباه سارة منذ كانت صبية يافعة تدرج مع والدها في تعلم
الأشياء المفيدة من علوم الفضاء . "انه كوكب الزهرة ياعزيزتي ؛ وهي نجمة
الصباح ". قال لها مبارك ذلك يصف نجمة الصباح بانها فينوس الجمال لكواكب
المجرّة قاطبة . أحست سارة بالاطمئنان وراحت تحزم متاعها وهي في طريقها الى القارب
الذي حملهما الى السفينة والتي رست بأمن بهم في احد الموانئ العالمية ومن ثم
حملتهما الطائرة نهار ذلك اليوم الى العاصمة الخرطوم . عندما وصولا السودان تهلل
وجه مبارك فرحاً , فقالت له سارة ممازحة " إنها في طريقها الى زيارة جدتها في
الريف بعد أيام . وانه بإمكانها وقت ذاك الاستمتاع بمشاهدة نجمة الصباح التي تلوح
في الأفق كقيثارة تعزف أجمل الإلحان لأسعد الذكريات .
يناير2010م
___
الطاعون
(1)
كانت إيمان أزهري تجلس على الكرسي
الأزرق ؛ ذات الكرسي البلاستيكي الجامعي الأزرق المُريح ؛ والذي كان يجلس عليه منذ
أن كان تلميذا صغيراً بالمرحلة الابتدائية ؛ والذي حاور في تطور بنيته وشكله ولونه
أنماطا مختلفة من التصاميم الصناعية التى أثارت على ما يظن قريحة المصمم السوداني
بكلية الفنون الجميلة والتطبقية لتبتكر أنماطا بديعة منه، كجلسة إيمان أزهري
اليومية عليه بمكتبة كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة القضارف الوليدة
.
يذكر أن جده عثمان قد قال له ذات يوم غائر في ذاكرته كلاما عميقا يتعلق بلعبة الكراسي في السياسة ببلده السودان وبأية الكرسي وبالكرسي الذي كان يجلس عليه ليحل تمارين الرياضيات المعقدة ويهيم بعيدا بفكره في أشياء غامضة تتعلق بإيمان أزهري. الحرب مازلت بعيدة ليكبر في تصوره للحياة كما كبرت صورة إيمان عن نفسها وعنه وهي تجادل المكان الجديد برعونة وصلافة جده العجوز الذي كان يعود إلى البيت ملطخا بالزيت والعرق في نهاية كل مساء من مصلحة النقل الميكانيكي.
الحرب مازلت بعيدة عليه ليمسك جذر موضوعها بكفيه الصغيرتين ثم ينام مفتوحا العينين تأخذه هواجس وأحلام البنت إيمان . يذكر الآن قصته- بعد ذلك بسنوات عديدة نهار أن كان على "مجروس الجيش" الذي كان يقل عساكر الفرقة الرابعة الذين كانوا يبذلون الجهد كله ليخرجوا من ميعة الوحل والطين الغروي اللزج وهو في طريقه معهم إلى القلابات قرب قرية "بركة نورين الحدودية "؛ قبل ان ينهمر عليهم وابل من رصاص عصابات الشفته. وكأن الطالبة إيمان أزهري كان تذكر على نحو غامضٍ بمخيلة منظمة وقريحة شديدة الالتهاب والدقة أضواء المدينة الجامعية الباهرة بتواوا التي تلاصفت من بعيد وهي تدخل عليها لأول مرة بعد ان أزيل معسكر اللاجئين الذي كان هناك ليحل بدلا عنه تاريخ جديد بعد العام 1994م هو بحق تاريخ إيمان أزهري الخاص جدا به وبالمكان الجديد !.
(2)
الحرب لاتفعل ذلك !.
إنها خدعة السلام الذي هبط عليه فجأة ؛ فدعاه للإحساس العميق بان ثمة مؤامرة وطنية كبرى حيكت في الظلام ضده وضد وطنه وضد جده وضد إيمان بالذات ؛ في امتحان الشهادة السودانية قالوا له اكتب فكتب : عن القارة السمراء وقضياها الشائكة العسيرة عن الحل!. أيها السادة والسيدات كنت على الفراش ليلا مع ملو الحبشية . اعترف: انا الجهل والفقر والمرض ، انا سيد الدنيا المتهتكة و عبد اللحظة العربيدة التي لن تكرر لمرة اخرى للابد ، ربما أكون قد أصبت بطاعون العصر ؛ وصلت" القلابات" متأخرا مع الجيش فوجدت نفسي مطلقة العنان لحياة الحرية والفوضى ؛ تعّرقت وسكرت شعرت بلذة التجربة لكن لم يخامرني وقتها احساس بالندم . في ذلك اليوم الذي فعل فيه ذلك لم تحضر إيمان كعادتها الى فناء كلية الطب . كانت تنتظر عودة ألاجئين وطائر البلشون الأبيض و زخة المطر الليلي الخفيف على نافذة الداخلية المفتوحة.
يذكر أن جده عثمان قد قال له ذات يوم غائر في ذاكرته كلاما عميقا يتعلق بلعبة الكراسي في السياسة ببلده السودان وبأية الكرسي وبالكرسي الذي كان يجلس عليه ليحل تمارين الرياضيات المعقدة ويهيم بعيدا بفكره في أشياء غامضة تتعلق بإيمان أزهري. الحرب مازلت بعيدة ليكبر في تصوره للحياة كما كبرت صورة إيمان عن نفسها وعنه وهي تجادل المكان الجديد برعونة وصلافة جده العجوز الذي كان يعود إلى البيت ملطخا بالزيت والعرق في نهاية كل مساء من مصلحة النقل الميكانيكي.
الحرب مازلت بعيدة عليه ليمسك جذر موضوعها بكفيه الصغيرتين ثم ينام مفتوحا العينين تأخذه هواجس وأحلام البنت إيمان . يذكر الآن قصته- بعد ذلك بسنوات عديدة نهار أن كان على "مجروس الجيش" الذي كان يقل عساكر الفرقة الرابعة الذين كانوا يبذلون الجهد كله ليخرجوا من ميعة الوحل والطين الغروي اللزج وهو في طريقه معهم إلى القلابات قرب قرية "بركة نورين الحدودية "؛ قبل ان ينهمر عليهم وابل من رصاص عصابات الشفته. وكأن الطالبة إيمان أزهري كان تذكر على نحو غامضٍ بمخيلة منظمة وقريحة شديدة الالتهاب والدقة أضواء المدينة الجامعية الباهرة بتواوا التي تلاصفت من بعيد وهي تدخل عليها لأول مرة بعد ان أزيل معسكر اللاجئين الذي كان هناك ليحل بدلا عنه تاريخ جديد بعد العام 1994م هو بحق تاريخ إيمان أزهري الخاص جدا به وبالمكان الجديد !.
(2)
الحرب لاتفعل ذلك !.
إنها خدعة السلام الذي هبط عليه فجأة ؛ فدعاه للإحساس العميق بان ثمة مؤامرة وطنية كبرى حيكت في الظلام ضده وضد وطنه وضد جده وضد إيمان بالذات ؛ في امتحان الشهادة السودانية قالوا له اكتب فكتب : عن القارة السمراء وقضياها الشائكة العسيرة عن الحل!. أيها السادة والسيدات كنت على الفراش ليلا مع ملو الحبشية . اعترف: انا الجهل والفقر والمرض ، انا سيد الدنيا المتهتكة و عبد اللحظة العربيدة التي لن تكرر لمرة اخرى للابد ، ربما أكون قد أصبت بطاعون العصر ؛ وصلت" القلابات" متأخرا مع الجيش فوجدت نفسي مطلقة العنان لحياة الحرية والفوضى ؛ تعّرقت وسكرت شعرت بلذة التجربة لكن لم يخامرني وقتها احساس بالندم . في ذلك اليوم الذي فعل فيه ذلك لم تحضر إيمان كعادتها الى فناء كلية الطب . كانت تنتظر عودة ألاجئين وطائر البلشون الأبيض و زخة المطر الليلي الخفيف على نافذة الداخلية المفتوحة.
(3)
قال له صديقه سفيان خليل : قصتك ليست متماسكة انك تخلق اشياءاً غرائبية من أوهامك وتصدقها انك مجنون وفي حاجة إلى استشارة طبيب ؛ طز الفنتازيا لاتبدو مبررا كافيا لشرح هذا العالم الغريب والظالم في تقديرك ؛ الخرافة ذهبت إلى حال سبيلها لتحل بدلا عنها خرافات جديدة أكثر فتكا من مرض الايدز . ماالذي تريد اذا أن تقوله للعالم ؟هه انك تقريبا لا تعترف بشيء حتى المرض تعتقد انه صنعيه تصور علمي واجتماعي مبالغ فيه!.
ماالذي يقنعك ؟ التجربة وجربت .. ولكن على مايبدو أن لديك متسعٌ من العمر الآن لتكتب نهاية لكل هذا العبث الوجودي الذي أنت فيه ، أو بداية أخرى جديدة تدفع الآنسة إيمان ازهرى للاستمرار في حبك وحب الناس و الحياة !.
(4)
تقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن أكثر من ألف شخص توفي قبل أسبوع
على الأقل جراء إصابتهم بفيروس مرض الايدز . أغلق بحنق المذيع وحاول أن يجد مسوغاً كافيا لحالة القلق الداخلي العارم الذي عصف بوحدة كيانه كلها جراء ماسمع . ربما كان هو ذات الوهم الذي دفع صديقه سفيان خليل ليقول ماقال . هو مايدفع وسائل الإعلام والتثقيف الصحي بالمرض باستمرار رغم حقائق الإحصائيات الدامغة – إلى تهويل الحقيقة المستقرة والرابضة في اعماقة عن خدعة السلام ومؤامرة الحرب .
في مدينة وهران انتشر مرض الطاعون بصورة وبائية بين الأوساط الشعبية بالمدينة الجزائرية الوادعة وحصد أرواح الألف ؛ ولقد كان ألبير كامو يمسك بدربة وحذق بالغيان خيوط اللغة وهو يرسم شخصيات روايته الفرنسية الشهيرة .
السماء صافية والطقس جميل وو الخ .. هكذا كانت إيمان في ظهيرة ذلك اليوم
فيما يشبه تداعياته الحرة بالأشياء والناس والأماكن في غرفة المختبر تحت المجهر تفحص الميكروبات الدقيقة لمرض عضال لم تفرغ بعد من حقيقة كنهه . ماهذا يالهي ؟؟ لكن الوقت قد مضى ولم تصل إلى نتيجة حاسمة . تحدثه صديقتي الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري عن وسائل انتقال عدوى المرض . كانت مستشفى معسكر ام راكوابة للاجئين الاثيوبين غاصة بالمرضى ؛ وقد كان هناك يتابع ذات الموضوع الذي كنت حدث صديقه سفيان عنه .. لم يكملا الحديث ولكن سفيان دعاه لمواصلته بمطعم " الماظ الحبشية " بحي بديم النور الشعبي .. تعرق جلده بشدة وغشته تلك الحالة الغريبة التي اعترته وهو يستلقى عاريا تماما على فراش" مُلو " بام راكوابة . كان الزققني والدليخ الحارق يزيد من تبرمه وحنقه بكل شيء أمامه . انه الطيش والجنون ذلك الذي دفعه للإفراط في تناول البيرة والانشة فيما بعد مع تلك الشيطانة .. ظل سفيان اللعين يسخر من قصتها كلها رغم ما كان يحس به من الم بالغ في بطنه ورأسه وكيانه شبه المحطم .
كان ميز الأطباء قريبا من هناك فتذكر إيمان وتشجع على الرد .. آه الساعة الآن التاسعة مساءاً ستترك إيمان كرسيها الأزرق المريح وتغادر المكتبة . غادرا المكان
أو غادرهما هو إلى الأبد، لكنه كان يتقاطع بمخيلته مع أطياف أوهامه الخاصة مأخوذا بقوة بسحر تزاوج فلسفتي الأمل واليأس المطبق بنفسه في ذلك المساء الرمادي المكفهر !.
قال له صديقه سفيان خليل : قصتك ليست متماسكة انك تخلق اشياءاً غرائبية من أوهامك وتصدقها انك مجنون وفي حاجة إلى استشارة طبيب ؛ طز الفنتازيا لاتبدو مبررا كافيا لشرح هذا العالم الغريب والظالم في تقديرك ؛ الخرافة ذهبت إلى حال سبيلها لتحل بدلا عنها خرافات جديدة أكثر فتكا من مرض الايدز . ماالذي تريد اذا أن تقوله للعالم ؟هه انك تقريبا لا تعترف بشيء حتى المرض تعتقد انه صنعيه تصور علمي واجتماعي مبالغ فيه!.
ماالذي يقنعك ؟ التجربة وجربت .. ولكن على مايبدو أن لديك متسعٌ من العمر الآن لتكتب نهاية لكل هذا العبث الوجودي الذي أنت فيه ، أو بداية أخرى جديدة تدفع الآنسة إيمان ازهرى للاستمرار في حبك وحب الناس و الحياة !.
(4)
تقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن أكثر من ألف شخص توفي قبل أسبوع
على الأقل جراء إصابتهم بفيروس مرض الايدز . أغلق بحنق المذيع وحاول أن يجد مسوغاً كافيا لحالة القلق الداخلي العارم الذي عصف بوحدة كيانه كلها جراء ماسمع . ربما كان هو ذات الوهم الذي دفع صديقه سفيان خليل ليقول ماقال . هو مايدفع وسائل الإعلام والتثقيف الصحي بالمرض باستمرار رغم حقائق الإحصائيات الدامغة – إلى تهويل الحقيقة المستقرة والرابضة في اعماقة عن خدعة السلام ومؤامرة الحرب .
في مدينة وهران انتشر مرض الطاعون بصورة وبائية بين الأوساط الشعبية بالمدينة الجزائرية الوادعة وحصد أرواح الألف ؛ ولقد كان ألبير كامو يمسك بدربة وحذق بالغيان خيوط اللغة وهو يرسم شخصيات روايته الفرنسية الشهيرة .
السماء صافية والطقس جميل وو الخ .. هكذا كانت إيمان في ظهيرة ذلك اليوم
فيما يشبه تداعياته الحرة بالأشياء والناس والأماكن في غرفة المختبر تحت المجهر تفحص الميكروبات الدقيقة لمرض عضال لم تفرغ بعد من حقيقة كنهه . ماهذا يالهي ؟؟ لكن الوقت قد مضى ولم تصل إلى نتيجة حاسمة . تحدثه صديقتي الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري عن وسائل انتقال عدوى المرض . كانت مستشفى معسكر ام راكوابة للاجئين الاثيوبين غاصة بالمرضى ؛ وقد كان هناك يتابع ذات الموضوع الذي كنت حدث صديقه سفيان عنه .. لم يكملا الحديث ولكن سفيان دعاه لمواصلته بمطعم " الماظ الحبشية " بحي بديم النور الشعبي .. تعرق جلده بشدة وغشته تلك الحالة الغريبة التي اعترته وهو يستلقى عاريا تماما على فراش" مُلو " بام راكوابة . كان الزققني والدليخ الحارق يزيد من تبرمه وحنقه بكل شيء أمامه . انه الطيش والجنون ذلك الذي دفعه للإفراط في تناول البيرة والانشة فيما بعد مع تلك الشيطانة .. ظل سفيان اللعين يسخر من قصتها كلها رغم ما كان يحس به من الم بالغ في بطنه ورأسه وكيانه شبه المحطم .
كان ميز الأطباء قريبا من هناك فتذكر إيمان وتشجع على الرد .. آه الساعة الآن التاسعة مساءاً ستترك إيمان كرسيها الأزرق المريح وتغادر المكتبة . غادرا المكان
أو غادرهما هو إلى الأبد، لكنه كان يتقاطع بمخيلته مع أطياف أوهامه الخاصة مأخوذا بقوة بسحر تزاوج فلسفتي الأمل واليأس المطبق بنفسه في ذلك المساء الرمادي المكفهر !.
(5)
تحالف القوى الديمقراطية الوطنية المعارض يقول في ندوة دار المعلمين الأخيرة إن أحزابه مجتمعة ستخوض معركة الانتخابات المقبلة . وتهدد الحزب الحاكم بالانتفاضة الشعبية العارمة ان حدث تزوير في السجل الانتخابي او إعاقة لمسيرة التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة .. نهض مبكرا قبل نهاية الندوة من ذات الكرسي الأزرق المريح الذي قامت عنه إيمان من المكتبة ؛ غير أنه ترك لصديقه سفيان خليل أن يكمل له ماحدث صباح اليوم التالي بمقهى الجزيرة . كل الأحداث تبدو مألوفة وعادية في القضارف عند إيمان أزهري وهو ما دفعه للإنصات أكثر لثرثرة سفيان خليل وسخريته اللاذعة من لعبة الكراسي في السياسة السودانية . قال له مرةً مارأيك بدلا من جلوسنا هكذا دون معنى ان نذهب الى الفاشر نتاجر بالفراخ المُثلج ونبيعه بأسعار جنونية لقوات الأمم المتحدة الرابضة هناك منذ فترة بسبب الصراع الدامي !. سيتزوج سفيان من تماضر بعد ثلاثة شهور ويتركه وحيدا هنا في المقهى يهيم بعيدا بفكره يتصفح الأخبار الباردة بالصحف اليومية ويشرب الشاي ويغوص في صمته المطبق .
(6)
- انبطحوا للأرض !.
فانبطحنا جميعنا؛ جاء الصوت مدوياً ومرعدا ، كانت مفرزة الرصاص تأذ بقوة عندما حاول العبور للجهة الأخرى معطيا" المجروس " ظهره غير ان واحدة من الرصاصات استقرت بكتفة الأيمن فسقط مغشيا عليه ؛ برهة وفرت عصابة الشفته من إمامهم كأن ارضاً مجنونة قد انشقت و ابتلعتهم !. طمأنه الطبيب الإثيوبي عن صحته في مستشفى ام راكوبة الريفي بعد أن قام بإخراج الرصاصة .. لكنها ظل طوال الليل يتسأل : لماذا يضمرا لهم هؤلاء القوم كل هذا العداء ؟؟. تحدثه صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري "يذكر" عن أوضاع اللاجئين في السودان وكيف استطاعت منظمة أطباء بلا حدود أن تحاصر رغم الفقر المدقع والأوضاع المأسوية هناك كثيرا من الإمراض المستوطنة بالمنطقة ومن ضمنها طاعون العصر مرض الايدز . الأمن وانعدامه في كثير الأحيان ربما هو أهم الأسباب التي دفعته إلى أعادت التفكير في مسائل كثيرة تتعلق بحقيقة وواقع العلاقات بين الشعبين السوداني والإثيوبي ؛ لقد وجد نفسه في النهاية في القضارف محملا بالبن الحبشي وسجائر نيالا وغيرها من البضاعة المرغوبة المهربة . ان ثقافة الحدود الامتناهية تخلق عادة قدر وافرا من الفوضى الأمنية والاجتماعية التي لايمكن السيطرة عليها بسهولة علاوة على انه ليس هناك حدود ولو حتى دينية لهذه الثقافة .
تحالف القوى الديمقراطية الوطنية المعارض يقول في ندوة دار المعلمين الأخيرة إن أحزابه مجتمعة ستخوض معركة الانتخابات المقبلة . وتهدد الحزب الحاكم بالانتفاضة الشعبية العارمة ان حدث تزوير في السجل الانتخابي او إعاقة لمسيرة التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة .. نهض مبكرا قبل نهاية الندوة من ذات الكرسي الأزرق المريح الذي قامت عنه إيمان من المكتبة ؛ غير أنه ترك لصديقه سفيان خليل أن يكمل له ماحدث صباح اليوم التالي بمقهى الجزيرة . كل الأحداث تبدو مألوفة وعادية في القضارف عند إيمان أزهري وهو ما دفعه للإنصات أكثر لثرثرة سفيان خليل وسخريته اللاذعة من لعبة الكراسي في السياسة السودانية . قال له مرةً مارأيك بدلا من جلوسنا هكذا دون معنى ان نذهب الى الفاشر نتاجر بالفراخ المُثلج ونبيعه بأسعار جنونية لقوات الأمم المتحدة الرابضة هناك منذ فترة بسبب الصراع الدامي !. سيتزوج سفيان من تماضر بعد ثلاثة شهور ويتركه وحيدا هنا في المقهى يهيم بعيدا بفكره يتصفح الأخبار الباردة بالصحف اليومية ويشرب الشاي ويغوص في صمته المطبق .
(6)
- انبطحوا للأرض !.
فانبطحنا جميعنا؛ جاء الصوت مدوياً ومرعدا ، كانت مفرزة الرصاص تأذ بقوة عندما حاول العبور للجهة الأخرى معطيا" المجروس " ظهره غير ان واحدة من الرصاصات استقرت بكتفة الأيمن فسقط مغشيا عليه ؛ برهة وفرت عصابة الشفته من إمامهم كأن ارضاً مجنونة قد انشقت و ابتلعتهم !. طمأنه الطبيب الإثيوبي عن صحته في مستشفى ام راكوبة الريفي بعد أن قام بإخراج الرصاصة .. لكنها ظل طوال الليل يتسأل : لماذا يضمرا لهم هؤلاء القوم كل هذا العداء ؟؟. تحدثه صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري "يذكر" عن أوضاع اللاجئين في السودان وكيف استطاعت منظمة أطباء بلا حدود أن تحاصر رغم الفقر المدقع والأوضاع المأسوية هناك كثيرا من الإمراض المستوطنة بالمنطقة ومن ضمنها طاعون العصر مرض الايدز . الأمن وانعدامه في كثير الأحيان ربما هو أهم الأسباب التي دفعته إلى أعادت التفكير في مسائل كثيرة تتعلق بحقيقة وواقع العلاقات بين الشعبين السوداني والإثيوبي ؛ لقد وجد نفسه في النهاية في القضارف محملا بالبن الحبشي وسجائر نيالا وغيرها من البضاعة المرغوبة المهربة . ان ثقافة الحدود الامتناهية تخلق عادة قدر وافرا من الفوضى الأمنية والاجتماعية التي لايمكن السيطرة عليها بسهولة علاوة على انه ليس هناك حدود ولو حتى دينية لهذه الثقافة .
(7)
في طريق الرجعة يحدثه صديقه الملازم أول عمر إدريس عن نساء " الحُمرا" و"قندر"و " المتمة الإثيوبية " الفاتنات . كان" القدران" يتهادى بطيئا في مشيته ويطقطق محملا بأجولة الذرة الثقيلة وقد كانا فوقه يستمتعا بمشاهدة المناظر الطبيعية البديعة لقرى الريف ومزارعه الخضراء ؛ ياالهي كم علينا ان نضع حدودا للغرب وثقافة أهله حتى لاتخذنا الفتنة بحضارته إلى مرحلة الصدمة وتفوت علينا متعة ان نستشف مجرد هذا الهواء النقي في الصعيد السوداني المترامي الأطراف . الشرق شرق والغرب غرب وقد يلتقى به كالعادة يثرثر عن أشياء لاهي تنتمي للشرق ولهي كذلك للغرب . لكنه يذكر ان عمر إدريس طفق يحدثه عندما لاحت صومعة الغلال من بعيد عن فوضى رجال الجيش والتجار واللاجئين في تلك الأصقاع ولم يكن يدري وقتها أي روابط خفية وغير واضحة تجمع الملازم عمر إدريس وعشيقته الإثيوبية مُلو في قرية ام راكوابة وبين سخرية صديقه المثقف سفيان خليل والبنت المهذبة الطالبة الجامعية إيمان أزهري .
في طريق الرجعة يحدثه صديقه الملازم أول عمر إدريس عن نساء " الحُمرا" و"قندر"و " المتمة الإثيوبية " الفاتنات . كان" القدران" يتهادى بطيئا في مشيته ويطقطق محملا بأجولة الذرة الثقيلة وقد كانا فوقه يستمتعا بمشاهدة المناظر الطبيعية البديعة لقرى الريف ومزارعه الخضراء ؛ ياالهي كم علينا ان نضع حدودا للغرب وثقافة أهله حتى لاتخذنا الفتنة بحضارته إلى مرحلة الصدمة وتفوت علينا متعة ان نستشف مجرد هذا الهواء النقي في الصعيد السوداني المترامي الأطراف . الشرق شرق والغرب غرب وقد يلتقى به كالعادة يثرثر عن أشياء لاهي تنتمي للشرق ولهي كذلك للغرب . لكنه يذكر ان عمر إدريس طفق يحدثه عندما لاحت صومعة الغلال من بعيد عن فوضى رجال الجيش والتجار واللاجئين في تلك الأصقاع ولم يكن يدري وقتها أي روابط خفية وغير واضحة تجمع الملازم عمر إدريس وعشيقته الإثيوبية مُلو في قرية ام راكوابة وبين سخرية صديقه المثقف سفيان خليل والبنت المهذبة الطالبة الجامعية إيمان أزهري .
(8)
ليس هناك سبب وجيه يدعو إيمان أزهري لتفعل مافعلت !.
-هه وماذا فعلت بالله العظيم ؟!.
- لم تفعل شيء ياصديقي هي فقط أغلقت الباب خلفها ولم تخرج إليك !.
لقد كان بارد الأعصاب طيلة الوقت ؛ لكن سفيان خليل لايكف من ممارسة أن يدس انفه دائما فيما لا يعنيه ؛ ويسخر من الموضوع برمته ؛ وربما قال له ذلك وربما كان يجهد نفسه في وضع تصور عقلاني ومنطقي بعلاقته غير الواضحة بالآنسة إيمان . لكنه فشل في النهاية مفضلاً ان ينقل الحديث عن السياسة والأدب إلى علم الباطن والأخلاق الماركسية والمدينة والجنس الخ .. ولربما وجدت صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري بعض مما كان يرمي به سفيان خليل من أفكار جريئة وعصرية شديدة المحافظة والالتزام تتعلق بعشيقته الإثيوبية مُلو , والتي ربما كانت تحمل فيروس مرض فقدان المناعة المكتسبة" الايدز "؛ فيجعلها ذلك التفكير يحس بالغثيان والبرد الشديد تحت جلده وعظامه ؛ فلقد كان يذكر إنها كانت تضغط على كلماتها وهي تقول له أن 97% من الإصابة بمرض الايدز هي عن طريق الاتصال الجنسي المُحرم . تباعدت مع مرور الأيام وفترت علاقته الوجودية بملاكه الرحيم الآنسة إيمان أزهري ،فلم يعد يألف رؤيتها في المساء عابرة فناء مستشفى القضارف التعليمي وهي تحمل بين يديها كتب الطب ومراجعه الضخمة ؛ لقد كانت كعادتها الآسرة تعبر على الأشياء ولكنها لا تقف عندها , ترش ُعليه وعليها رزازاً من عطرها الأنثوي الصارخ ثم تمضى هكذا إلى حال سبيلها , ويذكر يومها أن الصاعقة ضربت بقوة جهازه النفسي والعصبي الدقيق والمتماسك عندما حدثه "سفيان خليل "بأنه قد رأها من خلال نافذة البص السفري السريع بميناء المدينة البري في ذلك الصباح الخريفي وهي طريقها إلى أهلها بالخرطوم .
ربما لن تعود إيمان أزهري مرة أخرى وربما تفعل من اجل أسباب جديدة غير مايعلم ويظن ويعتقد؛ لكن ليالي المدينة المطيرة ونهاراتها المُشمسة وكثير من حضور شخصية جده" عثمان "الاجتماعية القوية عليه وتربيته الفريدة له, ستدفعه ليتذكر دائما بقعة الضوء البيضاء التي تركتها في أعماقها بحيث يصعب عليه تجاوزها أو حتى نسيانها يوماً ما.
ديسمبر2009م
ليس هناك سبب وجيه يدعو إيمان أزهري لتفعل مافعلت !.
-هه وماذا فعلت بالله العظيم ؟!.
- لم تفعل شيء ياصديقي هي فقط أغلقت الباب خلفها ولم تخرج إليك !.
لقد كان بارد الأعصاب طيلة الوقت ؛ لكن سفيان خليل لايكف من ممارسة أن يدس انفه دائما فيما لا يعنيه ؛ ويسخر من الموضوع برمته ؛ وربما قال له ذلك وربما كان يجهد نفسه في وضع تصور عقلاني ومنطقي بعلاقته غير الواضحة بالآنسة إيمان . لكنه فشل في النهاية مفضلاً ان ينقل الحديث عن السياسة والأدب إلى علم الباطن والأخلاق الماركسية والمدينة والجنس الخ .. ولربما وجدت صديقته المتطوعة الانجليزية الدكتورة كاثرين كاري بعض مما كان يرمي به سفيان خليل من أفكار جريئة وعصرية شديدة المحافظة والالتزام تتعلق بعشيقته الإثيوبية مُلو , والتي ربما كانت تحمل فيروس مرض فقدان المناعة المكتسبة" الايدز "؛ فيجعلها ذلك التفكير يحس بالغثيان والبرد الشديد تحت جلده وعظامه ؛ فلقد كان يذكر إنها كانت تضغط على كلماتها وهي تقول له أن 97% من الإصابة بمرض الايدز هي عن طريق الاتصال الجنسي المُحرم . تباعدت مع مرور الأيام وفترت علاقته الوجودية بملاكه الرحيم الآنسة إيمان أزهري ،فلم يعد يألف رؤيتها في المساء عابرة فناء مستشفى القضارف التعليمي وهي تحمل بين يديها كتب الطب ومراجعه الضخمة ؛ لقد كانت كعادتها الآسرة تعبر على الأشياء ولكنها لا تقف عندها , ترش ُعليه وعليها رزازاً من عطرها الأنثوي الصارخ ثم تمضى هكذا إلى حال سبيلها , ويذكر يومها أن الصاعقة ضربت بقوة جهازه النفسي والعصبي الدقيق والمتماسك عندما حدثه "سفيان خليل "بأنه قد رأها من خلال نافذة البص السفري السريع بميناء المدينة البري في ذلك الصباح الخريفي وهي طريقها إلى أهلها بالخرطوم .
ربما لن تعود إيمان أزهري مرة أخرى وربما تفعل من اجل أسباب جديدة غير مايعلم ويظن ويعتقد؛ لكن ليالي المدينة المطيرة ونهاراتها المُشمسة وكثير من حضور شخصية جده" عثمان "الاجتماعية القوية عليه وتربيته الفريدة له, ستدفعه ليتذكر دائما بقعة الضوء البيضاء التي تركتها في أعماقها بحيث يصعب عليه تجاوزها أو حتى نسيانها يوماً ما.
ديسمبر2009م
__
زُمرةُ
الأَخيار
(1)
كنبل وعراقة نهر النيل الأبيض
العظيم ولأكثر من ثلاثين عاما في مدينة الكلاكلة القلعة جنوب الخرطوم رقدت على
أرضه الطينية الطيبة حكاية عمتي توما ؛ وإمتدت في انسكاب النهر وجريانه من منبعه
ببحيرة فيكتوريا حتى مصبه بمدينة الإسكندرية بالشقيقة مصر في رشيد
ودمياط ومن ثم تماهيه وتماهيها مع حكايته بأمواج البحر الأبيض المتوسط
الصاخبة. ومنذ ذلك الوقت وأنا انسج معها كامل روايتي الطويلة مع المدينة
الكبيرة : الخرطوم ؛ والتي كنت أحزم كتبي ودفاتري يوميا متجها الى امدرمان فأّمرُ
عليها مهدود الحيل نهاية كل في المساء . كانت الجامعة على ما يبدو هي شغلي الشاغل
لكن عمتي توما كنت ترى بحدسها الثقاب ان ثمة مسائل أكثر إلحاحاً وأهمية بالنسبة لي
وان تسترتٌ في تلك الأيام بالدأب الشديد الى درجة الولع بالدراسة وبالمحيط
الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان يشع فيها طيلة حضوري معهم فيها او لفترة
غيابي عنها لأكثر من خمسة أعوام كاملة !.
(2)
- اللهم صلي على النبي المختار !.
كدت أرى بأم عيني - والعهدة على
الراوية المجهولة ذات الأصول الغريبة من غرب السودان والتي جاءت برفقة عمتي توما
من الأراضي المقدسة ، كدت أرى أسراب الحمائم البيضاء تحط على دار توما بأخر
القلعة في أول يوم من وصولها الميمون .
سمعت لأكثر مرة عن كرامات
المتصوفة ولكني كل ذلك لا يعدل ما سمعته منها قبل ان تحج الى بيت الله الحرام وبعد
ذلك ، فقد كانت تروي دائماً عن بئر زمزم ومائها المبارك الذي شربناه وتبركنا
بها , وأصغينا من ثم بانتباه شديد لقصتها في طواف الإفاضة بعد عودتها من
مِنى , وطوافها لسبعة أشوط بمكة المكرمة ثم سعيها بين الصفاء والمروة ثم
رميها للجمرات ورجمها للشيطان في عرفة , وقد قالت وهي لا تكف وضيفتها
الغربية من سردهما المؤنس : إن عرفة هي المكان الذي التقى فيه ادم وحواء بعد
طردهما من الجنة ونزولهما الى الأرض , ولكأني كانت ابحث كأب البشرية سيدنا
آدم عليه السلام عن مكان أجد فيه نفسي من جديد وصديقتي أمل عزالدين
التي كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة عن بيت عمتي توما في الكلاكلة القلعة .
(3)
في جهاز شؤون المغتربين كان يعمل
صديقي سليمان فضل ؛ وقد كان ذلك يدفعني بشدة للمس جوهر الصراع الذي يعشه الكثير من
أصدقائي بالجامعة وخاصة صديقتي الحميمة والقريبة إلى نفسي أمل عزالدين ؛ لم يكن
طفولة الخليج العربي ومن ثم الحرب هو الذي يجمعها بهم فلقد كانت ذات
أصول مصرية فوالدها كان يعمل مفتشا في الري المصري وهي تسكن الشجرة ؛ وقد كنا
نستغل بصاً سياحيا أو حافلة خاصة تقلنا إلى بيوتنا ليلا في نهاية اليوم الجامعي
تنزل هي وأواصل للكلاكلة أنا ؛ وقد كنا نتلاقى في السهرات الخاصة وفي أعياد رأس
السنة وفي كل نشاط ثقافي بهيج تحفل به الخرطوم في المنتديات والمنتزهات
والكافيتريات وغيرها بحيث عزز ذلك من وجودي الأليف معها , ومن امتلاكي
لمعرفة ثاقبة مكنتني من رؤية الأشياء والعالم من حولي من وجهات نظر
صائبة ومتفائلة جداً بالحياة .
(4)
صديقاتي اللدودات بنات عمتي توما
: غادة ورانيا وأصغرهن أمنة أو" ميمي" كما يحلو للجيران أن ينادينها
دائماً ,ثلاثتهن كن يحسن الإصغاء في الصباحات الباكرة لصوت المقرئ الشيخ صديق أحمد
حمدون على أثير صوت إذاعة هنا أم درمان .وقد كن أيضاً مولعات بصوت الفنان إبراهيم
عوض وربما كانت الحفلات الليلية التي يصلني أصوات مطربيها المشاهير من
على سريري بفناء البيت خارج الصالون
هو أكثر ما يشدني إلى العاصمة وهو
ذات الداعي الذي كان يبعثني على الحديث المرح الودود معهن في تلك الصباحات المخضلة
الجميلة .
- هل للسكر طعمٌ حلو ؟؟
- معلقتين لو سمحتي فأبي
مصاب بالسكري !.
- والملح ؟ اهو مالحٌ أيضاً ؟؟
- لم أسافر إلى ميناء السودان
البحري لأعرف ذلك !
- توما فعلت عندما سافرت الى الحج
؛ ناديها لتعرف ذلك !.
غير أني مثل كنت غادة و أمنة أحب
النوارس والحرية والسُكر كما أحب مصطفى سيد أحمد ؛ وتشهد لي عمتي وبناتها
الثلاثة بأني كنت أول من حضر للمطار بعد إن عاد أخيرا إلى الوطن محمولاً على تابوت
من خشب . هكذا هي الحياة حلوها دائما في مرها ؛ تلك كانت مجمل
فلسفة رانيا في الحياة التي ورثتها عن أمها ، وقد كانت غادة اكثر بنات عمتي
الحاجة توما قربا مني كمعلمة لتلاميذ مدرسة القلعة الابتدائية , اما أمنة فهي
تختلف عنها كثيرا فهي تدرس الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح . تحمل كل
يوم كمانها وراء ظهرها ولا تعود الى نهاية المساء , ترتاح قليلا ثم تشرع في العزف
المنفرد الجميل للحياة القادمة الجميلة .
(5)
تحت الأضواء الكاشفة بإستاد
الخرطوم الدولي كانت تقام مباريات كرة القدم المسائية ؛ وقد كان موقف باصات
الكلاكلة الجديد كعادته القديمة غفيرا بالناس من كل أصقاع السودان ، وقد كان
طلاب الجامعات بالخرطوم يجعلون من ذلك المكان الاجتماعي البهيج مسرحا عالمياً
لإلتحام الرياضة بالعلم والثقافة والفن . وقد كانت روح عمتي توما تنسال في ذلك
المكان وأمكنة أخرى كمسرح قاعة الصداقة والمتحف الوطني وغيرها مما جعل أقدمي
أكثر ثقة في الدخول الى أزقة وردهات العاصمة المثلثة التى لم اكن اعرفها او
ارتادها من قبل.
(6)
اذكر أننيِّ في صباح ذلك اليوم
أدخلت ملابسي التي كنت قد كويتها ليلة الأمس في دولابي الخاص مؤجلا للمرة
الثالثة سفري إلى القضارف ,عندما دخلت عليِّ بالصالون صديقتي أمل عزالدين ، لم يكن
مستغرباً أن تفعلها وتزورني في عقر داري لكنها فعلتها في النهاية . ولأنها كانت
بشكل ملتوي تطلب المغفرة من خنجرها البارد الذي غرسته وراء ظهري مساء أن كُنّا معا
بالنادي الأمريكي بالجامعة الأهلية فقد تباطأت في الرد عليها ، فلم اعر
أسئلتها المتتابعة عن غيابي طيلة أسبوع عن النادي والجامعة اهتماماً ؛ كنت قد قررت
في سري أن احسم أمري في كل فصول تلك الملهاة التي أعيشها باحثا عن دور جديد
يناسبني في بلاد الله الواسعة؛. لكني في نهاية الأمر قد غادرت الخرطوم ولم اعد
بعدها إليها إلا لماماً . كانت إجازة سنوية طويلة فكرت بعدها في حلول غير
تلك الحلول التي جربتها مع حبيبتي أمل خلال تلك الزيارة المفاجئة
.ولربما استطيع الان وبعد مرور كل ذالك الوقت أن أقص بمتعة بالغة تفاصيل كل
ماجرى لكل من كان يُهمه الأمر .
يناير 2010م
_
أعمالُ
الخراب
(1)
لم تشهد الخرطوم تخريباً أكثر مما
شهدت ؛ كنت بعين الذي يعنيه الأمر أرقب الموضوع عن كثب ؛ كل المظاهرات والمسيرات
وأعمال العنف وكل الانتفاضات الشعبية منذ فترة الفريق إبراهيم عبود كل ذلك
لا يعدل أعمال الخراب التي تنجم جراء الدافع التاريخي القادم من لعنة الماضي الذي
تورطنا حتى أخمص أقدامنا فيه . اجل لعنةُ نجمت لكوننا احفاداً لتلك الأفعال
مجتمعةً من الحقبة اللعينة والتي تستعيد نفسها الان وفي أي وقت , فنفعل نحن أهل
الحاضر ما كان يفعله أهل الماضي ؛ فتعم الفوضى ويكثر الفساد وتتقوض بنيات الحضارة
والمدنِية .
(2)
في العِّلية كان يسكن عصام
عبدالعال في هو وزوجته في عِشة زوجية هانئة ، فقد كانت له شقة بالطابق الثاني
للبيت هناك في حلفاية الملوك ؛ وحيث يطل التاريخ من شرفة مسائية هادئة كنا
نحتسى عصر ذلك اليوم الشاي ونتسامر الى ان يأتي موعد النوم فيذهب كل
الى مكانه ؛ كان البيت متسع برحابة أهله ككل بيوت الحلفاية ، وقد كان عليِّ
أن ادخل الحمام واخرج منه الى باب المنزل ثم الى الشارع ؛ ومن ثم أجلس تحت
المظلة التي هي أمام الشارع الرئيسي ارقب السيارات المتجهة شمالا الى الكدرو
او جنوبا الى المحطة الوسطى ببحرى او الى سوق الخرطوم العربي مباشرة ؛ لأعود
مرة اخرى للبيت أتملأ بمشاهدة منظر المدينة التاريخية التي أضاءت مصابيحها احتفاءا
بيِّ في ذلك الوقت المتأخر من الليل .
(3)
لم تتح لي الفرصة لأتعرف على
محمود خالد عن قرب ؛ كان هو احد اولاد الحلفاية الجميلين الذي احتفوا بزياتي
,وهو يدرس الفلسفة بإحدى الجامعات بالخرطوم . طفق يحدثني منذا اول لقاء لنا
مع عصام عبدالعال عن الاجتماع السوداني وكيف انحرفت به القيم الجمعية الخيرة وأصبح
مدرج تحت قائمة اتهامه بجرائم بشعة غريبة عليه . وراح يشرح لي ِّ كيف انه
وفي الفترة التي كنت غائباً عن البلاد فيها ان شرذمة من انزال السلطة تكالبوا على
الوطن وجعلوا مثل تلك الأحداث تتزايد او تتكرر على أحسن تقدير , لم اكن اعلق
على كل مايقول رغم خطورة موضوعه لاني كنت أعتقد في قرارة نفسي ان كل مايقوله يصب
في خانة الترحيب بي ؛ لكن الحديث انحرف الى بعده التاريخ مصطحباً معه الأماكن خاصة
مدينة سوبا عاصمة مملكة علوة المسيحية التي خربتها "عجوبة " وأصبحت
مثالا للخراب في تاريخ السودان الجديد , الذي لم أشاهد منه سوى ماكان يحكيه
بوعي كامل صديق العائلة محمود خالد ,قبل إن يطيب بي المقام في ربوع الوطن بعد
ثلاثة أعوام قضيتها مغتربا بالسعودية .
(4)
لم اكن في حاجة الى من يذكرني بما
ينبغي عليِّ فعله حيال كل ماكان ينهار في الخارج . صديقي عصام عبدالعال كان
رفيقاً بي وبما أحس فقال ليِّ انهم خرجوا في ابريل متظاهرين ومنددين بسقوط الطاغية
واحتفلوا بأكتوبر وظلوا يرفعون علم الاستقلال كل مرة في السنة في يناير ؛ ولكنه لم
يكن يقدر مدى مايمكن ان تصنعه الغربة في مسح هذه الصور في اذهان من يبتعدون عنه ؛
ولكم كان ودودا وكريماً كعادته معي عندما تطاف بالنقاش مناحي متشعبة ظهيرة ذالك
اليوم , غير ان الحديث كان اكثر سخونة وتماسكا عندما حضر محمود خالد الذي حوله الى
حوار سياسي صب جام غضبه وسخطه حول كل الذين تعاقبوا على حكم هذه البلاد واعملوا
فيها هدما وتخريبا وفساداً . والحق اقول ان محمود خالد كان عميقاً لدرجة اني لم
اكد افرق بينه وبين تقارير نشرات الأخبار الحية الساخنة والتي تشجب وتدين
أعمال العنف والتخريب في أي بقعة من انحاء المعمورة ؛ لم يفلت احد في ذلك اليوم من
لسانه اللذع خاصة اولئك الانزال المجرمين الذين لعبوا بإرادة الشعب الوطنية
وأخروا من فرصتة الذهبية في التجديد والتغيير والنهضة. عموماً يمكنني القول
ان أيامي معهم في حلفاية الملوك كانت حافلة ومضيئة ؛ وتظل ذاكرتي متقدة وانا اذكر
الحاح صديقي عصام عبدالعال على البقاء أكثر لمعرفة المزيد من الاخبار التي
تهمني هناك .
(5)
عندما كنت احزم حقيبتي إيذانا
بالمغادرة والرحيل أعطاني صديقي عصام عبدالعال بطاقة خضراء لأمل
العودة من جديد والمشاركة يد بيد في التغيير. فقد كان يحدثني عن ما ظل يردده محمود
خالد عن أخبار التخريب والهدم المتعمد بالوطن كالقتل والاغتصاب وحالات
الانتحار وو الخ؛ وقد قال لي ونحن في طريق الخروج من البيت ان شهود عيان
كانوا قد قالوا ان أربعة رجال قد قتلوا وأصيب عشرات خلال مصادمة بين أفراد
الشرطة والجيش السوداني ونازحين من جنوب السودان في احد مخيماتهم جنوب
العاصمة . لكنها اتبع ذلك بالقول على ان كل ذلك في طريقه الى الزوال إلاّ انه لم
ينسى تذكيري بالمحن والكوارث الأخرى غير الحرب في جنوب الوطن كالفيضانات التي يهرع
المواطنين في ملاحم وطنية كبيرة في إلجام جموع النهر العنيد وجنونه .
(6)
أقسى الشهور مرت عليِّ , تفتحت في
الذاكرة أزهار الريحان واختلطت ذكرياتي بالرغبات ؛ ومضى موسم الصيف الى غير رجعة ؛
وقد كنت أحاول طيلة هذه الفترة إيجاد مرفأ آمن يجمعني وأفكار محمود خالد وحقائقه
الكالحة والموجعة عن الوطن ؛ ولقد كان موضوع حرب التاريخ وهستريا الماضي الذي يعيد
إنتاج نفسه في الحاضر هي أهم ماكنت أُعمل نفسي بالتفكير فيه ، وقد كانت خطوتي
تقترب او تبتعد احيانا من سلام نفسي وانا أتذكر نظرات صديقي عصام
عبدالعال الودودة لي ِّفي ذالك الصباح الباكر وهو في طريقه معي الى صالة
المغادرة بالمطار .
يناير2010م
_
آل عمران
إنتباه !. لست الأعور الدّجال؛ لا
تأخذكم منذ البداية ريبةٌ في الأمر !.
اسمي عيسى محمد عبدالله.. من أسرة
فلسطينية كريمة مكونة من والد أمي " جدي " عمران " , ومن جدتي
المرأة الصالحة العاقر التي لم تلد سوى أمي مريم ؛ فعمران جدي من أمي
كان رجلٌ مزواج كثير الإعتناء بنفسه وشؤون الأسرة وبالصلاة على نجمة داؤود
وبالمقاومة إلى آخر نسمة من الحياة !. .وإذا سألتموني من هو داؤود وكيف تكون
الصلاة عليه ؟ لن أجد جوابا كافيا لسؤالكم .. فربما كانت نجمته في أورشليم
أو القدس العربية أو أريحا أو غزة أو طولكرم أو حتى مكة المكرمة لكنني
لا اعلم مع اختلاط قصتي التي ارويها لكم مع قصة أخرى تعرفونها جيدا في
القصص القرآنية هي قصة أسرة السيد المسيح عيسى عليه أفضل الصلاة
والسلام وأمه السيدة مريم العذراء؛ هكذا خرجنا من مخيم إلى مخيم إلا أن
استقر بنا الحال في تونس كان ذلك في نهاية الثمانينات على ما اذكر ؛ خرجنا من
لبنان الى مصر إلى السودان الى تونس وتلك قصة طويلة ؛ يقولون في القصة المشابهة
لهذه القصة أن كل الأنبياء من هذا البيت , وان شئتم الدقة كل أنبياء
بني إسرائيل كيعقوب وسليمان وزكريا كلهم من هذا البيت أي بيت جدي
عمران ؛ وهو اسم على اسم كما يقولون ، فيعقوب هو إسرائيل نفسه الذي أسس روحياً
الدولة الصهيونية التي هاجر إليها اليهود من كل حدب وصوب من أصقاع الدنيا
خاصة أوربا, حتى اسحق وإبراهيم من نفس البيت الذي لم اخرج أنا منه وبالطبع أمي
العزيزة السيدة مريم عمران؛ أما إسماعيل فهو جد العرب أو أباهم ولست
ادري ، ولكن القصة الفلسطينية لهذا الموضوع تدور في شعابٍ ومناحٍ
شتى ملخصها أن السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو بالنرويج في العام
1993م قد رتبت أوراقهم للعودة إلى فلسطين بشكل آخر مختلف ومن ثم العيش
فيها جنب بجنب مع العدو الإسرائيلي الذي يحتل الأرض منذ العام 1948م .
***
يحكي لى جدي عمران وقد فرغنا
ليلتها من عشاءنا في احد مخيماتنا بعين الحلوة جنوب لبنان ان الدولة
اليهودية التى تكونت بعد وعد بلفور هي الدولة التي تسعى الى اقتلاعنا من جذور
أصولنا التاريخية والدينية المرتبطة بالقدس ومن أي مكان قريب من فلسطين , وعلينا
أن نغادر هذه المناطق لان الحرب قادمة علينا لاريب ولن ترحم أحداً . كان ذلك بعد
مجزرة غزة قبل عاميين من ألان ؛ وقد صح قوله فراح هو ضحية أول غارة
جوية علينا ؛ وقد تألمت أمي مريم كثيرا لرحيله ؛ وتولت هي قص الحكايات البطولية
التاريخية نيابة عنها متى ما سنح أمننا العام بذلك ؛ لكننا لم نبرح لبنان
إلاّ بعد انتهاء شبح الحرب السادسة التي انتصرت فيها إرادة المقاومة
الإسلامية اللبنانية المتمثلة في حزب الله على العدو الإسرائيلي , لكن ذلك قد خلف
دماراً عميماً بالبلاد , واستدعت أمي الفدائية الصابرة مريم عمران قصص تونس
ومصر والسودان في التأكيد على المقاومة والصمود وقالت إننا لن نرحل من بيروت ولن
نعود الى الجنوب مرة أخرى بعد رحيل جدي عمران , ثم إننا لن ننتظر ما يمكن أن
يسفر عنها في غزة حتى نسافر إليها رغم الدمار والقصف الذي خلفتها تلك الحرب
العينة عليها !.
***
وماذا بعد غزة ؟!
كانت جدتي العجوز تسأل ؛
ولكنها لا تجد أحد يجيب على قلق سؤالها ؛ ربما كانت الأوضاع أفضل
حالاً مما هي عليه غداة كنا بتونس مع منظمة التحرير الفلسطينية جاء
"أبوعمار" الى هناك ورحب بنا لنقيم بتونس عشر سنوات كاملة ,
فغادرنا بيروت كأسرة كريمة من أسر المقاتلين الفلسطينيين في منظمة التحرير
وكان ذلك في العام 1982م عقب اتفاقية كامب ديفيد والتي اعتبرها
جدي وقت ذاك خيانة عظمى من قيادة مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية للقضية
الفلسطينية فلم نمكث بمصر سوى ثلاثة شهور حتى توجهنا إلى تونس رأساً ؛ ومصداقاً
لمواقف جدي عمران المتزمتة والشديدة حيال السياسة الدولية والإقليمية بالمنطقة فقد
تم نقل الجامعة العربية من القاهرة الى تونس الخضراء . وطاب بنا المقام واشتد عود
المقاومة العربية لكن إسرائيل لم تتركنا في حال سبيلنا فأغارت
طائراتها على مكاتب منظمة التحرير هناك واغتالت صديقا جدي أبو جهاد وأبو إياد وقد
كان في نهاية الثمانينات في العام 1988م, إلا أن المسائل كانت تمضي الى طريق
مسدود في نظر جدي الطيب الشيخ "عمران " حتى العام 1993م بعد اتفاقية غزة
وأريحا فعاد بعضنا إلى غزة والضفة الغربية لكن فضلنا المكوث في جنوب لبنان حتى
تنجلي حقيقة الأمور وما يمكن أن يسفر عنه هذا العداء السافر والصارخ على وجودنا
عبر التاريخ !.
***
لدير ياسين ذكريات مؤلمة عند جدتي
وجدي عمران عليه رحمة الله, لكنها كانت تعني أيضاً من خلال
أحاديثهما الودودة بداية النهاية لكابوس الاحتلال على أراضينا الشريفة الطاهرة ,
فلقد كانت كما هي في تصوري لها دائماً قرية وادعة أمنة تقع غرب القدس عندما
اجتاحتها قوى البغي والعدوان ؛ وما طلع صباح اليوم التالي إلا وقد كانت مجزرة
مروعة راح ضحيتها الآلاف من المواطنين العذل ؛ لكن لا يلبث جدي عمران على التأكيد
دائماً بان المجزرة هي السبب الأقوى الذي فتح أبواب الهجرة الفلسطينية
للبلدان العربية المجاورة كسوريا والأردن وبالتأكيد لبنان ؛ وغير ذلك من
مناطق أخرى غير دول الجوار؛ وهو العجوز المندفع بروح الشباب الدائم الذي لا يدع كل
مساء او صباح وطنيٍ يمر علينا إلا ويذّكرنا باستمرار بان المذبحة قد سببت حالة من
الرعب نادرة المثيل عند المجتمع المدني في دول العالم قاطبةً .
***
قد نستطيع الآن وبعد كل الذي
حدث العيش بسلام ؛ فالظروف تغيرت وعلينا العودة من جديد إلى غزة ؛ لقد كانت
معركة دامية وانتهت بغير سلام ,وعليِّ وعلى ما تبقى من أسرتي أن نحافظ
على نسل جدي عمران ؛ ومن ثم على السلطة الفلسطينية في الدولة الفلسطينية
الحرة ذات الحدود المعلومة في منظمة التحرير تأكيد التوصل إلى حل نهائي
وشامل يضمن وقف إطلاق النيران بصورة نهائية ؛ ويضمن الانسحاب الشامل من كافة المدن
الفلسطينية . كما يضمن وقف بناء المستوطنات على كل شبر من أرضنا المحتلة و التي
شيدت على أجساد شهداءنا الأبرار !.
يناير 20010م
_
زفة
الملائكة
كلما اختلفتُ " ببحري
" امتزجت روحي بروحها الخفيفة الوثابة و شفت فتجليت ؛ ثم رحت بعد ذلك
أسجل على الورق انطباعي عنها , وعن المكان الذي اختلفت عليه فيها مأخوذا بجمالها
وسحرها وهدوء الحياة بين جنبتاها !.
كانت الحافلة ُ تقلني من ام درمان
مارةً بالكوبري الكبير الواسع فأرى من خلال نافذتها مشهد النيل الجميل في الصباح
ومياهه التي كانت تترقرق في وداعةٍ ورقةٍ, ولكم كانت ومازالت تأسرني بيوت بحري
الهاجعة المتراصة في تلك الصباحات .؛ لكن أكثر ما كان يشدُ انتباهي لها هو
هذا السكون الحبيب لسكانها وأهلها الطيبين كأنهم ملائكة نورانية أو أشباه
ملائكة أو كأنها- بحري مكانٌ هبطت عليها في التو
ملائكة الرحمن !.
***
لشدما كان يؤرقني أن أستدعي كل
ماكنت اعرفه عن تلك الحالة الفريدة ، خاصة ماكنت اقرأه وأنا جالس على مقعد الحافلة
قبالة شباكها المفتوح , بعد ان اشتريت صحيفة من اقرب كشك للجرائد بمحطة الشهداء ,
كانت صحيفة الغد لهذا اليوم قد نشرت مقالاً مطولاً فيه أخبارٌ مستفيضة عن الملائكة
التي تهبط علي البشر في صحوتهم ومنامهم , وتقول الصحيفة على لسان رجلٍ متدينٍ لا
اكاد اذكر اسمه او أتبين ملامح وجهه أنها تهبط في الفجر عندما يهجع كل شيء
ٍفي الأرض وتشرع في إعلان بداية الحياة للكائنات الحية الشفافة !.
***
ابن خالتي يوسف خليل يعمل في
تاكسي الخرطوم لأكثر من عشرين عاماً؛ وقد كان له تاكسي أصفر اللون بعدد " 6
راكب "من ماركة ليست بالقديمة ولكنها ليست بالحديثة .. على أي حال من الأحوال
؛ وهو يعاني منذ فترة من داء اهتمامي بهذا الموضوع , فضلا عن انه يشتكي منذ أكثر
من سنتين من الآلام الحادة في ظهره جراء جلسته الطويلة طيلة ساعات النهار خلف مقود
التاكسي يطوف بأحياء الخرطوم المختلفة ويقطعها طولاً وعرضاً. ومما كان يدعوني
للإعتبار منه هو إني كنت مطمئن البال لسلامة صحته خاصة يوم أخبرني بالتليفون بأنه
سيذهب للعلاج في القاهرة ؛ وقد فعلها وذهب الى هناك وعاد اكثر يقين من ذي قبل
بسيادة هذه الروح العالية التي تبعث في نفسه ونفسي السكينة والاطمئنان .
***
لم أكن في حاجة ايها الأحباب الى
من يذكرني بجدوى المكوث ببحري أكثر مما مكثت ؛ هناك بحي الشعبية جنوب نزلت
ثم خطوت بأقدامي بعدها راجلا من محطة المؤسسة الى البيت مباشرةً. كان يوسف خليل
يأتي متاخراً الى هناك بعد الساعة العاشرة مساءاً ، لكنه فعلها هذه المرة وعاد
مبكرا في غير العادة ؛ وكان سريع التحضير لما كنا نفكر فيه معا اذ قال لي مباشرة
قبل ان استمتع بالجلوس الهادئ في باحة البيت المفروش ؛ قال لي انه كان يصلي المغرب
عندما دخلت عليه عوضيه زوجة أخيه التوم طالبت منه حلا لما كان يحدث بداخل البيت
والحلة من تورط " التوم " في قصص غريبة اقرب للخيال منها الى الواقع .
***
ظل يوسف خليل يسرد ليِّ حكايات
طويلة طوال الليل عن أشياء في غاية الألفة والإيناس ؛ وهكذا هو دائما رجل
لطيف وغاية في الظرف والملاحة ولم ينسى ان يبلغني خبر اخيه التوم الذي شاع ذكره في
الحلة ولم يصلني ؛ ثم راح يتحدث عن الأحلام وكيف استطاع ان يدحض كل قناعاته
السابقة عن الموضوع ؛ وظل يؤكد لي وقد التمعت عيناه ببريق شفاف وساحر ان في تفسير
الأحلام لابن سيرين اشياءٌ غير واقعية لكنها تظل حقيقة محضة لكونها حلم يحدث
بكل تفاصيله في الكتاب الى الحلم يحدث كما هو نفسه أثناء النوم , وقال لي بالحرف
الواحد ان مثل الرؤيا المنامية ليست من أعمال الشياطين بل هي عملٌ نوراني تقوم به
مخلوقات الله النورانية . فلقد رأى ذات يوم انه جالس في قصعة خضراء وارفة الظلال
تحفها جداول رقراقة وحولها أشجار الفاكهة والنخيل عندما حضرت اليه من مكان بعيد
والدته المرحومة " أمونة " وهي على ثوب ابيض ناصع وطلبت منه ان يلاقني
في البيت ليبلعني نبأ قصة" التوم " ويقوم بعد ذلك بتسديد حساب البيت
بدكان " عبدالماجد " ؛ وقال لي انها اختفت بعد ذلك في المنام ؛ لكنها
واصل حديثه بان قال ان خديجة جارتهم ذهبت مع عوضية زوجة اخيه التوم فوجدت الحساب
مدفوع وان عبدالماجد صاحب الدكان ظل يشتكى من نفس الاعرض الغريبة للمخلوقات
الغريبة التي كان يزعم انه تسكن الدكان لمجرد مغادرته له عند منتصف الليل !.
***
" اني أرى ما لاترون
"هكذا كان التوم يهذي في النوم ثم يستشيطً غضباً في كل من كان
حوله بعد استيقاظه ، هكذا حدثني يوسف خليل ؛ وقال لي ضمن ما قال انه قد لاحظ ان
عوضية زوجة اخيه التوم وجارتها خديجة كانتا بنشاط زائد فقد خلال الاسبوع
الماضي ، فقد كانتا تبذلان مجهوداً فوق طاقتهما في العمل الدؤوب داخل البيت
وخارجه ؛ كما انه قد لاحظ ايضا ًان البيت والحارة قد غشتها نوبة غير طبيعية من
النشاط والحركة التي لا تنقطع . ويحدثني يوسف خليل ايضاً ان ملاكاً جميلاً زاره في
المنام ليلة أمس وقد كان على هيئة والدته المرحومة فأخبره بان يصل الارحام ويملاْ
سبيل البيت بالماء كل يوم حتى لا تغضب هي عليه ؛ وحدثني ايضا انه كان يفعل مايأمر
به خشية ان يصبه ما اصاب التوم وعبدالماجد صاحب الدكان .
***
لم اترك ابن خالتي المرحومة
يوسف خليل إلاّ بعد ان قص لي قصة أخيه التوم منذ بدايتها فقد حدثني قبل مغادرتي
للشعبية عن التوم انه قال ان رجل غاية في الوسامة والوضاءة كان قد هبط مساء أمس
بميدان الكرة , وعندما شاهده عبدالماجد صاحب الدكان اسرع بإغلاقه ولاذ بالفرار الى
بيته . يقول " هبط" كان
عفريت من الجان او كانه ملاك نزل
ثم صعد تاركا غباره في الميدان "، هكذا كان يوسف خليل يتحدث ساخرا من الأمر
؛غير انه كما علمت من عوضية فيما بعد انه كان يكثر التسبيح في الليل والنهار ليخرج
شياطين الإنس والجان من البيت ؛ لكن التوم لم ينسى ان يقول لي قبل ان
أغادرهما انه رأى فيما يشبه الجناحين خلف ظهر يوسف خليل عشية وفاة
والدتهما , ويقول فيما يشبه الدعاء الهامس انه كانت أيام عصيبة نزل المطر
فيها غزيرا على المدينة في غير العادة .
فبراير2010م
_____
صباح
ُالعالم ِ... مِساءُ الحُب
(1)
من هنا فقط صرت انظر إليك !.
تختلف وجهات ألنظر للأشياء
وللآخرين الذين من حولنا ولكن هناك وجهة ٌواحدة ترى صورتك دائما بوضوح وإشراق.
هكذا من أجلك يا عزيزتي احتملت مصائب العالم الذي أدخلته من ثقب الإبرة التي مر
عليه فيلٌ ضخم ٌكان يرعى أمناً في غابة الخرطوم القديمة قبل أن تتمدد غابة
الاسمنت في الخرطوم الجديدة وتتعذر فيها عندي النظر والرؤيا الثاقبة للأشياء
والآخرين !. في مايو والإنقاذ والمايقوما و حارات أمبدة و في كل الإحياء الشعبية
في الخرطوم ذات السحنة الإفريقية كانت تنضح و تغلي في عروقي دمائك الحارة ؛
فأتنفسك ملأ رئتاي و أصبح والمدينة بكِ على ألف خير . قلت لصباح الخير
موعدنا غدا ً ؛ ولكني أخلفت ميعادي لأسباب تتعلق بك ؛ فأعتذر هو بدلاً عنكِ وذهب
ليحضر عصير الفراولة . كنتِ مساءها تضعين الزهور البرية على حديقة ذكرياتي
المتوهجة تتأنقين في ملابسك البسيطة وترشين العطر عند مدخل بابها الخلفي مع كل
لقاء كان يجمعنا معاً .وها أنا اليوم بكل أرادتي اخرج لك حافي القدمين حسير الرأس
لاستقبالك . من أنت ياعائشة النور ؟. جئت متأخرا بعض الوقت الى هنا
ولكني أكتشفتك ,والان لك أن تقدري أي خسارة يمكن أن تلحق بكلينا إن لم نتلقى
أصلاً ونتعارف ويحدث بالتالي كل ما كان يحدث !.
(2)
على شارع الكورنيش كانت خطواتنا
الراجلة تقترب من بعضها , تنبهر الأنفاس وتتهدج الأصوات وتنخفض في روماتكية حالمة
فاقت قصص الأفلام العاطفية التي كُنا نشهدها نهارا معاً بقاعة سينما قصر الشباب
والأطفال المكيفة الهواء في نهاية الشارع بأم درمان . عائشة النور من كوستي ؛ حي
المزاد . هكذا عرفتنيِّ بنفسك وذهبتي إلى حال سبيلك والى موقف أبو جنزير بالسوق
العربي كانت أقدامي تعظل في البداية معك لكنها استقامت في مشيتها فيما بعد ,
وهنالك بموقف امتداد ناصر كنت تستقلين حفلتك الأنيقة نهاية كل مساء
تقريبا عائدة الى بيتكم الجديد أنت ووالدتك بالخرطوم ؛ كدت افعلها واذهب معك الى
هناك لكني فضلت الاستمتاع برفقتك الأنيسة معي في رحلة العودة حتى دخولي الى بيتي .
(3)
أخي صباح الخير لستُ الوحيد الذي
نجا من الذبح !. لقد فعلتها ونجوت بأعجوبة وفديتني أنتَ بكبش أقرن شديد البياض ؛
لكنني للأسف لم اخرج سالماً فلقد أصبت في حادث سير خفيفة ؛ تتذكر ذلك دائما
وتذكره بمحبة في حواراتك النادرة معي كلما جاء ذكر حبيتي عائشة النور .. في مستشفى
الشرطة ببري تكفلتني العناية الإلهية برعايتها فتماثلت سريعا للشفاء وأنت برفقتي
بالطبع . هناك ايضاً تذكر جيدا أني قد تعرفت على عائشة النور لأول مرة ؛ كانت الأعاصير
تسكن دمي ؛ لكنها هدئت مساء أن التقينا وجه لوجه بالعنبر ؛ كانت تعاود أمها
المريضة ؛ وقد كنت لا أقوى على الحركة غير انها كانت تفعل بنشاط وحيوية متناهية ؛
كانت بيضاء كالحليب , طيبة لدرجة العبط لكنها لم تكن ساذجة كانت عميقة في بساطة
شعبية اليفة , ليست صعبة لتمسك بيِّ ولاهي بسهلة لتفلت مني . أنت تفهمني ياصباح
الخير . منذ أن أقتربت أكثر من مجال جذب شخصيتها المغنطيسي ؛ قلت لي مرة
"أذكر"ان أهم شيء في التعامل مع الآخر أن تتركه كما هو؛ ثم تأخذه كما هو
عند التعامل معه !. ؛ وقد كنت تعني ما تقول. فقد اكتفيت بابتسامتك الودودة المحبة
للعالم عندما مدت يدها عليك بالسلام مرحبة بصداقتك الحميمة لي ِّ . كنا وقتها في
احد الحفلات الهامة بنادي الضباط للفنان العربي كاظم الساهر الذي غادر البلاد وهو
الى معجبيه ومعجباته بالسودان وعائشة النور واحدة منهن .
(4)
للنهار والليل طعمٌ ولون ورائحة
!.
هنا عندما نصل إلى هذه النقطة
بالضبط أركن سيارتك البيجو وتوقف بِّنا لدقائف معدودات بطرف
الشارع أو دعنا نتحدث ونرى ما يمكن أن نفعله ؛ ما كنت أعرف ياصديقي أن
الحب جميلٌ وساحرٌ إلى هذا الحد ! وما كنت أعلم في البداية أن عائشة النور
ستجرجرنا الى كل هذه العوالم الفاتنة الجديدة . أنت تفهمني فقد خرجت من اثر
الحب الظاهري إلى أثره الباطني فصرت أحدس بسهولة ما يمكن ان يحدث في الخارج . قلت
لها إني بخير , وسأغادر المستشفى صباح الغد !. ؛ فردت- وهي تنظر عميقا الى أمها
التى راحت تبتسم في ايضاً في وجهي – : لا معنى لوجودها بعد هذا, سنخرج سويا معا
نهار الغد !. وفي أعطتني تلفون منزلها بامتداد ناصر وخرجنا سوياً في نهار اليوم
التالي .
(5)
كانت الكنائس تدق أجراسها كل يوم
أحد ؛ فتفتح لي عائشة النور كل صباح نافذة خضراء على النيل الذي كان يسخو علينا
فتطير منا الفراشات وتصدح العصافير بأعزب الأغنيات . كان جسدي مليء بالجراحات
والندوب الغائرة التي لم يداويها قبل حضورها على دنياي لا النسيان ولا مغامرات
الحب العابرة. كانت قدُاس الامل الذي صرت أرى به الحياة بوجه مشرق وقد كان ذلك عبر
مشاورينا المسائية معاً الى معرض الكتاب المقدس ونادي ناصر الثقافي والدار
السودانية للكتب فقد كان لعائشة النور ميول قوية للفكر القومي العربي الذي
أمكنني من خلال ما تؤمن به من قناعات ان أرى عبرها العالم رغم ويلات الحروب
والكوارث والمجاعات تسوده الوحدة والسلام والمحبة .
(6)
في كل يوم كان يمر علي َ برفقة
عائشة النور كنت اتجدد كما يتجدد الماء , وكان صديقي صباح الخير يروض خيولي
السوداء الجامحة يقرأ في ِّالآخر- النقيض ويحاوره ويتفاوض معه فيخرج منه
بالخير الوفير . وقد كانت عائشة جاهزة للحب ضاجة بالحياة ,وكم كانت مرهفة
رومانسية وسريعة التأثر تتحلى بقدر كبير من الإصغاء للآخر ؛ ولما كانت مدينة كوستي
في ذاكرتها سوى مكان أليف ولدت به وترعرعت فإن امتداد ناصر صار مكان جديدا شهد
ميلاد شبابها الجديد , هنالك تعرفت على والدتها ولذلك اقتربت خطواتنا من بعضها
أكثر فقد كنا نسير جنب الى جنب وهي التي تضع كفيها في الجيبين الإمامين للجينز ,
وكانت كما هي دوماً شديدة الإيمان بي ِّ ,مبصرة العاطفة . ناعمة .
تشعرني بالقرب و الألفة مع جهات العالم الاربع.
فبراير 2010م
_
المحتويات :
1- بداية جديدة لقصة قديمة
2- بيت العنكبوت
3- قمر البر والبحر
4- نجمة الصباح
5- الطاعون
6- زمُرة الأخيار
7- أعمال الخراب
8- آل عمران
9- غبار الملائكة
10-صباح العالم ...
مساء الحب
تعليقات
إرسال تعليق